بعض من يُحامي عن الإسلامقراطيين؛ إمّا أنه لا يعرف حقيقة واقعهم فيجادل عن باطلهم بجهل؛أو أنه يعرف حقيقة واقعهم ويكتمها ويُدلّس في أحكامه؛ ومِن ثَم يُخطّىء ويُجهّل غيره ممن يكشف حقيقة الإسلامقراطيين ومنهجهم ويُحذّر منه.
على قول القائل:(رمتني بدائها وانسلت)!
ومَن طالع كتاباته القديمة؛رجّح الثاني؛لكننا سنحمله ونناقشه مؤقتا على المعنى الأول وهو الجهل بواقع مَن يُحامي عنهم ؛ومِن ثمّ فهو فاقد لنِصف العلم الذي يحتاجه لإصابة الحق في فتواه!
فيفتي بغير علم؛ فيَضل ويُضِل.
وقد قال ابن القيم – رحمه الله – :
(ولا يتمكن المفتي ، ولا الحاكم ، من الفتوى ، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهْم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع ، بالقرائن ، والأمارات ، والعلامات ، حتى يحيط به علماً .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ؛وهو فهم حكم الله الذي حكم به ، في كتابه ، أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر .)” إعلام الموقعين ” ( 1 / 87 ) .
وهذا ما طبّقه مِن قبله؛ وأشار إليه شيخه ابن تيمية رحمه الله بين يدي فتواه الشهيرة في التتار؛ حين سُئل عن قتالهم مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله ، فقال :
نعم ، يجب قتال هؤلاء ، بكتاب الله ، وسنَّة رسوله ﷺ ، واتفاق أئمة المسلمين ، وهذا مبني على أصلين :
أحدهما : المعرفة بحالهم .
والثاني : معرفة حكم الله في مثلهم .)اهـ
ومَن جَهل أحد الأمرين؛ فقد جهل نصف العلم الواجب عليه ليجتهد ويصيب الحق في الفتوى.
والحاصل أن بعض مَن أمسى يُحامي ويجادل عن الإسلامقراطيين ممن كان يكفّر كثيرا منهم سابقا؛ويُبطل جهادهم؛ويعدّه جهادا لإعادة نُوّابهم إلى البرلمان؛ ويُحرّض على سفك دمائهم-كما في الجزائر-وهذا مُوَثّق في نشرة الأنصار- سيأتي بعضه في الملحق!
لا يستحيي اليوم من اتهام غيره بعدم التفريق بين آليات الديمقراطية وحقيقتها!
ويزعم أنّ مَن يُحامي عنهم مِن الإسلامقراطيين؛ لا يقصدون حقيقة الديمقراطية؛ وإنما يقصدون معانٍ غير مكفّرة منها؛وبناء على هذه الدعوى التي سيتبين جهله وغلطه فيها؛يتهم غيره بالتكفير بمطلق مسمى الديمقراطية!
وقبل أن نُبيّن جهله بحقيقة القوم وواقعهم؛ مِن أقاويل مشاهيرهم وقياداتهم؛أوتجاهله للحقائق التي يعرفها؛تدليسا وتلبيسا وتلاعبا في أحكام الشرع؛ لسواد عيون من يُحامي عنهم!
نقدّم بمقدمات:
المقدمة الأولى: لسنا مِمن يُنزّل حكم الكفر على كل من استعمل لفظ الديمقراطية أو مَدَحها ؛ولا نُلحِقه بمعناها التام ؛أو بمعناها المُكفّر ؛حتى نتحرّى وننظر بمراده وقصده إن أجمل القول ولم يُفصله؛وهذا ما نبهنا عليه في رسالتنا الثلاثينية قبل مايزيد عن عَقدين من الزمان؛ لأنّ مقاصد الناس قد تتفاوت في فهم لفظ الديمقراطية الأعجمي؛ ومعناها الممدوح عندهم!
ولست بحاجة إلى إطالة هذا الكلام بنقل كلامي من الثلاثينية؛ فالمنصف الصادق -لا المُزوّر الكاذب- يعرفه؛ويسهل رجوعه إليه .
المقدمة الثانية:معلوم أن الكلام الصريح البيّن؛ والواضح الظاهر الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا؛ لا يُحتاج فيه إلى التبيّن في مقصد قائله والبحث له عن تأويلات، ولو اعتُبِر ذلك واشترط ؛لصار مدخلا لتلاعب الزنادقة بالشرع .
ولذلك نقل القاضي عياض في الشفا عن حبيب بن الربيّع –من فقهاء المالكية -قوله : ( أنّ ادعاء التأويل في لفظ صراح لا يُقبل ) أهـ (2/217) ، ونقله محتجّا به شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص (527) .
فتبيّن قصد الفاعل؛ معتبر وضروري ولا بد منه في محتمل الدلالة ، ولا اعتبار له في الألفاظ الصريحة الواضحة .
المقدمة الثالثة:سيرة الرجل ونهجه وقرائن حاله؛ ونهج جماعته الذين يرافقهم ويُسايرهم ؛تُعَرِّف بقصده ومراده ؛ويُرجّح بها القاضي أو الحاكم المراد دون الإعتماد على دعوى القائل وزعمه مِن قصده :فإذا كان قائل القول المحتمل معروفا بتلاعبه في الدين؛ أو معروفا بإرادته في هذه الألفاظ معنى كفريا ،أو معروفا بمصاحبته للطواغيت؛ أو بأخوّته للكفار والروافض ، فهذه القرائن ونحوها تُرجح إرادة الكفر ؛ولا يُصَدّق بدعواه وزعمه إرادته معنى آخر هذا لو ادعى هو وليس محاميه؛فكيف وهو لم يدّعِ ذلك أصلا؛ويُصر على باطله؛ويكرّره ويقرّره؟!
يوضح ذلك ما ذكره القاضي عياض ، قال: (وشاهدت شيخنا القاضي أبا عبد الله بن عيسى أيام قضائه ، أُتي برجل هاتر رجلا اسمه محمد ، ثم قصد إلى كلب فضربه برجله فقال له: قم يا محمد !
فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك وشهد عليه لفيف من الناس فأمر به إلى السجن وتقصّى عن حاله ، وهل يصحب من يستراب بدينه ؟ فلما لم يجد ما يقوي الريبة باعتقاده ضربه بالسوط وأطلقه ) أهـ من الشفا (2/237) .
فتأمل كيف لم يكتفِ القاضي بجواب الرجل وكلامه حتى تقصّى عنه وعرف مَن يصحب ،وإنما لم يقتله لأنّ خَصم الرجل كما ذكر؛ كان اسمه محمدا ، فهذه القرينة مع عدم اشتهار الرجل بالزندقة أو مصاحبة من يُستراب بهم، كل ذلك دلّ على أن الرجل أراد سبّ صاحبه الذي هاتره ، ولم يرد سب النبي ﷺ ، وهذا ما منع من تكفيره وعصم دمه ، واكتفى بضربه تعزيرا لزجر الناس عن هذا الباب.
فمَن لا يبالي بالتشريع مع الله وفقا لنصوص الدستور؛ويعتبره حقا مشروعا له؛وينتهج نهجا شركيا كهذا؛ ويُصاحب جماعة تنتهجه وتختاره وتُنافح عنه؛وتسابق الجماعات؛ وتنافسهم عليه؛ وتعدّه الخيار الأمثل للحكم ؛يؤخذ بهذا الظاهر ؛ولا يُتخرّص في قصده ومراده ؛ولا يُطالب مَن أخذه بظاهره ؛وبنهج مَن يصاحبهم وينتسب إليهم؛ أن يرجع إلى مُغيّب ضميره؛وينقب عما يَدّعي المرقّعون له؛أنه موجود في قلبه!
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ، وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) . رواه البخاري ومسلم.
بل يُقال:إذا كان الكلام الذي تَفوّه به المتكلم صريحا غير محتمل الدلالة على المعنى السيء ؛وعُرف مِن نهج صاحبه وسيرته واختياراته أنّه يقصد المعنى السيء؛ فالقاعدة المذكورة مِن وجوب الرجوع إلى قصد القائل للكلام ومراده؛ تُدينه في هذه الحال ؛فيُؤخذ بظاهر اللفظ ولا يُنقّب عمّا في باطنه ولا يُشق عن قلبه؛ ليُتكلف البحث له عن أعذار موهومة ؛ومدّعاة ومخترعة لم تخطر له على بال!