من أعظم ما يربي النفس المسلمة مرافقة ومصاحبة العقلاء والأخيار،فالصحبة هي التربية،وما فاق الصحابة غيرهم إلا بالصحبة والمشاهدات النبوية الشريفة،وأثر الجلوس مع العقلاء ينمي العقل،واثر الجلوس مع الصالحين ينمي الخلق،وكثرة الإستماع والجلوس مع السفهاء يذهب العقل والخلق،وتستطيع أن تعرف عقل الرجل وخلقه من خلال من يجالس ويصاحب،ثم ترى هذا بيناً في كلامه وسلوكه وألفاظه.
كانت لي أيام مع خيار من الخلق،بعقولهم وأخلاقهم،وبعد طول نظر ترى أن هؤلاء أصفياء للشهادة،جاؤوا إلى هذه الدنيا ليضيؤوا زماناً بنور الخلق والعقل،ثم ترحل بهم نفوسهم للشهادة،فقد أدوا ما عليهم من إضاءة الحق في النفوس،فأقاموا حجة الله في النفوس.
وهذا قبس من النبوة،وأثر من آثارها،فلهم محامد الطاعات،ومدائح العقول،وأثر الصبر على الخلق والثبات على الدين.
لقد عشت أياماً مع صديقي أبي عياض،لا أدري كيف فرض نفسه علي،يأمرني وينهاني،غير هياب من نفرة مني لذلك،وغير متلجلج بكلمة قاسية يقولها لي،وكأنه أب لي جاء به الزمن بعد أن بدأ الشيب يخط بلونه في العوارض،وأنا في هذا كنت أسعد وأفرح،لا أرى ذلك غريباً،بل كأنه شيء فطري بيني وبينه،صنعه الحب في الله.
لم أر في حياتي أقسى وآلم من نفس تظنها تحبك،وأنك بلغت منها مبلغ الأخ الأكبر،أو الأب الحاني،ثم هي بكلمة واحدة منك تجريها عليه على هذا المعنى فإذا هي نافرة منك نفر الأوابد،مستكبرة أن تسمع كلمة واحدة تجريها على معنى الحب،فيأخذها الآخر على معنى المحاقة والمحاسبة،فتدرك أنك أخطأت العنوان.
لقد كان أبو عياض يمارس معي أبوة قاسية،بألفاظ شديدة،وكلما زاد في عيار ذلك أزداد حباً له،وقرباً منه،بل وطاعة له.
يجلسني مجلس التأديب،ومجلس المراجعة،فوالله لا أزداد إلا طاعة له،وإقراراً بفضله،إذ أراه في ذلك ابناً باراً وصديقاً صدوقاً،فهو لا يسجل لك أخطاءك ليسقطك،بل ليرقى بك في باب لا تعلم عنه إلا قليل،وهو حال النفوس البشرية،وأنا من أجهل الناس بهذا الباب.
يأتيك أبو عياض بالقلم لتكتب حين يراك كسلاناً،ويأتيك بالورق،ويجلس قبالتك ليراك تقوم بواجبك،ثم يأخذ منك ما تكتب ليبدأ بوضع لمساته،وهي جهود مضنية من الطباعة والإخراج،ثم ترى هذا الفرح العارم على وجهه وهو ينشره لك باسمك،لا ينازعك بأن له كلمة منه وفيه.
فأي نفس راقية كانت نفس أبي عياض،الشهيد الحبيب!.
ما كتبت في لندن من كتب من مقالات مجلة المنهاج،ومن كتاب جؤنة المطيبين كانت على هذا الأمر وهذه الصورة.
لم يكن الحال في لندن يصلح لصناعة البطولة غير بطولة الحب في الله،والحفاظ على دين الشباب والنساء،وتربية الأطفال في بيئة ملئت بغضب الله،وكان الشيخ أهل لهذه البطولة،ومن علمها علم أنها تمام معنى البطولة التي تصارع الجاهلية.
كان الشيخ أبو عياض سيد من يقود الشباب،فهو لا يمل ولا يكل،ويعلم خصالهم،ويديرهم بالحب،والرعاية،والكل يقر له أنه يستحق لقب الأخ الأكبر الحاني والحبيب.
فجأة رحل الشيخ،هاجر في سبيل الله،والشيخ لم يكن يشاورني في شيء يعمله،إنما هي كلمات الإخبار فقط،وكأنه يجنبني الحيرة في أبواب يعلم أنها أسقط فيها بشبر ماء،ولا أحسن العوم فيها.
كنت من لحظتها أخاف عليه عدم فهم الناس له،فليس الكل يعلم قيمة الرجال،ولا البعض يعلم كيف هي بطولة أبي عياض.
ستجد كثيرين يظنون قسوته غروراً،أو قيادته تحكماً،وأو عياض رجل قائد،وفيه خصال القيادة،ويستحقها،وشباب اليوم ينافس ويعترض،ولا يفهم قيمة الرجال،ولذلك لما شكى لي بعضهم أمر أبي عياض،علمت أن هناك خطأ في التقدير.
ما زال الناس وإلى يومنا لا يقبلون قسوة المحب،فتلك خصلة كبيرة على عقول بعضهم،بل أكثرهم،وكم أعاني من ذلك عندما أنسى نفسي،وهذا هو حال أبي عياض مع بعضهم.
رحمك الله يا أبا عياض،ورفع منزلتك،فمثلك يبكى عليه،ولا ينسى،بل كلما فقدت الناصح تذكرتك،وكلما رايت من يفهم الحياة تذكرت كلماتك،وكلما ضرب الكسل بأطنابه في نفسي تذكرت كيف كنت تقودني،وتدفعني،وتجلس مني مجلس المؤدب الحاني.
ولعل هناك بقية.
______________
Source: Telegram
To inquire about a translation for this release for a fee email: [email protected]