بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وبعد؛
عندما قامت الثورة الفرنسية كان شعارها (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، لماذا؟؛ لأن الكنيسة كانت تحارب العلماء الطبيعيين من جهة، وتعتبر اكتشافاتهم الحديثة مخالفة للإنجيل، وكانت من جهة أخرى تضفي المشروعية على السلطة الظالمة التي أرهقت الناس بالضرائب الباهظة التي كانت تمد الأسرة الحاكمة والنبلاء بما يحتاجونه من رفاهية، ولذا فإنها كانت تضفي على الحاكم صفة التقديس، فلما نجحت الثورة الفرنسية -وكانت ثورة شعبية- رأت أنه لا سبيل لتحقيق العدالة الاجتماعية من جهة، والتقدم من جهة أخرى إلا بإلغاء الملكية المستبدة، وتحجيم دور الكنيسة بحيث لا تتدخل الكنيسة في شئون الحكم، ولا تعطي الفرصة للحكام المستبدين في حكم الناس بمشروعية الكنيسة، ولا تتدخل في شأن العلماء بحجة أن اكتشافاتهم متعارضة مع الكتاب المقدس -كما استتابوا (جالليو) وكادوا أن يحرقوا (كوبرنيكوس)-، ومن ظهر مصطلح (secularite) يعني (اللادينية)، أو فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة ومناحي الحياة، بحيث يتقوقع الدين داخل الكنيسة ولا شأن له بأي نظام في الحياة نهائيًا ..، وهذا التصرف من الثورة الفرنسية قد يكون مبررًا في وقته؛ لأن رجال الدين المسيحي وقتها جعلوا الدين عقبة ضد التقدم والعلم وتطور الحياة، وأضفوا المشروعية على النظم الحاكمة المستبدة ليحققوا منافع خاصة لهم.
ثم انتقل إلينا هذا المصطلح تحت شعار (العلمانية)، وهو نفس مضمون شعار (اللادينية)، ولكن بلفظ جميل حتى تتقبله نفوس العامة والسامعين ظنًا منهم أنه يتبنى العلم، ثم تطور أكثر فأصبح له اسم جديد وهو (الدولة المدنية) أو (النظام المدني).
وأصبح الكثير من العلمانيين يرفضون أحكام الإسلام أو أكثرها تحت حجة أنهم يريدون نظامًا مدنيًا، وبعضهم يزعم أن إقامة الشريعة ستؤدي إلى تخلف الدولة والمجتمع، وبعضهم يزعم أن إقامة الشريعة يعني (الحكم الإلهي) أو (الثيوقراطي) -كما يقولون-، بمعنى أن الحاكم هو ظل الله في الأرض، ولا يجوز الاعتراض عليه بحال، والاعتراض عليه هو اعتراض على الله، وكل هذا ونحوه هو (عرض مشوَّه) و(عرض باطل) للشريعة الإسلامية، حتى يكون هناك نفور من الشريعة الإسلامية في نفوس العامة لو سمعت أو قرأت هذه العروض الباطلة عن الشريعة الإسلامية، فيتم العرض المشوه من هؤلاء العلمانيين ضد الشريعة الإسلامية، وفي المقابل يعرضون زبالة عقولهم تحت شعارات براقة مثل (العلمانية، الحرية، المدنية، الليبرالية، الديمقراطية) تمامًا كالفاكهة المسرطنة التي نأكلها شكلها جميل ولكنها قاتلة.
وهنا لا بد لنا من وقفات تجاه هذا الأمر خاصة في هذه الأيام التي أتت بعد ثورة يناير، وسقط نظام ديكتاتوري وأصبح الناس يحتاجون إلى نظام جديد يحكمهم، وإلى مبادئ جديدة تنظم شئون حياتهم، وهو ما يسمِّيه الناس اصطلاحًا بــ(الدستور)، ونظرًا لأن ما سيتم وضعه للناس من دستور أو قوانين أو غير ذلك له أهمية في صياغة المجتمع أو في خدمة فئات معينة أو أفكار معينة، فمن هنا نشط العلمانيون ودعاة الديمقراطية ويتبعهم عدد من العامة الذين تخدعهم الشعارات البراقة والتي يفهمون منها أنهم سيحصلون على مزيدٍ من الحرية ومن المنافع الاقتصادية، وأن صوتهم سيكون له وزن وقدرة على التغيير، نشط هؤلاء ليطالبوا بدولة مدنية ونظام مدني، ورفضوا نتائج الاستفتاء الذي وافق فيه الأغلبية على تغيير ست مواد فقط من الدستور السابق، وكان رفض بعضهم لنتيجة الانتخابات لأنهم يريدون دستورًا كاملاً وليس بعض التغييرات، وبعضهم صرَّح بأن بقاء المادة الثانية في الدستور -والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي في التشريع- تتعارض مع الديمقراطية ومع الدولة المدنية ومع حرية الرأي ..إلخ، وعلى حد تصريح (عمرو أديب) المذيع المشهور: إن الديمقراطية إذا أتت لنا بالشريعة الإسلامية فـ(طُظ) -أي نرفض- الديمقراطية. وبالمناسبة نود أن نذكر أن (عمرو أديب) كان أول من أجرى حوارًا مع الرئيس مبارك في دار القوات الجوية عام 2005 في حوار مليء بالنفاق والنفخ المبالغ للديكتاتور السابق، ونذكر تقديمه السمج لزيارة أوباما لجامعة القاهرة حيث نبَّه بشدة -حوالي ربع ساعة- على عدم فتح الشبابيك وعدم الخروج من البيوت بأسلوب مبالغ فيه كاد أن يطلب فيه قانونًا بإعدام من يخرج ساعة حضور الرئيس الأمريكي الذي تكلم عنه كأنه نبي من الأنبياء.
والمقصود أن العلمانيين ونحوهم يرفضون الشريعة الإسلامية، ويريدون بكل الوسائل سرعة التمكين للنظم المخالفة للإسلام حتى لا يتمكن الإسلام من الوصول في يوم من الأيام إلى سُدَّة الحكم؛ ونظرًا لضيق المقام فإننا سنعلق على عدة نقاط هامة في عجالة سريعة فيما يأتي بإذن الله:
1- ربطُ العلمانيين بين تطبيق الإسلام وبين التخلف أو عدم اللحاق بركب التقدم الحضاري هو ربط باطل وخاطئ؛ لماذا؟ لأن الإسلام لا يعارض التقدم العلمي بأي حال من الأحوال، ولا يمنع من استخدام العقل، بل على العكس، فإن الإسلام هو أكثر دين ذكر أهمية العقل وذمَّ من لا يستخدم عقله كما قال عن الكفار: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وكما قال تعالى عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وذمَّ المقلدين لآبائهم دون تمييز كما قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
فإذا كان الإسلام لا يتعارض مع العقل بل يدعو لاستخدامه، ولا يتعارض مع العلم بل يحثُّ عليه، وإذا كان تاريخ الإسلام يشهد بذلك حيث إن الحضارة الغربية قامت في أساسها على ترجمة المؤلفات العربية في مجالات الطب والفلك والحساب والجغرافية وغير ذلك مما هو معلوم وله تفاصيل طويلة.
إذن من الخطأ اتهام الإسلام بالتخلف أو بالتسبب فيه، ومن الباطل قياس الإسلام على رجال الكنيسة الذين حاربوا العلم والعلماء في القرون الوسطى، وبالتالي من الخطأ المناداة بشعارات الغرب وخطاه التي فصلت الدين عن الحياة وعن الدولة حتى يتمكنوا من التقدم وبناء الدولة الحديثة، بل هذا سيكون من أعظم الظلم للإسلام.
2- الديانة النصرانية ليس فيها تشريعات مثل الإسلام؛ فالإسلام فيه قوانين للمواريث، وقوانين للأحوال الشخصية، وفيه حدود للجرائم، وفيه قواعد للقضاء، وفيه ضوابط لكل الأحكام المتعلقة بالفرد أو المجتمع والسلم والحرب، بينما الديانة النصرانية هي ديانة روحية وكهنوتية فحسب. ومن هنا