بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده … أما بعد ..
فهذا بحث صغير في الخوارج ، يشمل :
– مقدمة
– تعريف الخوارج
– اختلاف العلماء في الخوارج
– قصة ظهور الخوارج كفرقة
– فِرق الخوارج
– حكم العلماء في الخوارج
– بداية ظهور الفكر الخارجي ، وحديث ذو الخويصرة
– في ذكر مَن روى أحاديث الخوارج
– مواضع ومصادر أحاديث الخوارج
– مختصر ما ذكر ابن تيمية في الخوارج
– الأصول الجامعة للخوارج
– إنزال حكم الخوارج على جماعة بعينها :
– هل المجاهدون اليوم خوارج ؟
– خلاصة البحث
مقدمة :
من الأخطاء الكبيرة والخطيرة التي أطلّت – ولا زالت تُطل – علينا بين الفينة والأخرى : قضية الحكم على جماعة بأنها من الخوراج ، وهذه المسألة أُشبعت دراسة منذ سنوات ، وهي قضية قديمة متجدّدة ، فكل جماعة جاهدت أو خرجت على حاكم أو ظهر للبعض أنها شابهت الخوارج في بعض الصفات انتصب لها من يَسِمها بالخارجية !! الصحيح أنه ليس كل طائفة خرجت على حاكم تكون “خارجية” ، ولا كل من اعتقد أو تصرف بما يشبه بعض تصرفات أو اعتقادات بعض الخوارج يكون خارجياً ، فلمثل هذا التصنيف ضوابط وأصول ، وهو تصنيف مختلَف فيه في الخوارج خاصة ..
الخوارج فرقة لها تاريخ وأصول واعتقادات وأفعال تدلّ عليها ، وقد جاءت في هذه الجماعة الكثير من النصوص – التي سيأتي ذكرها إن شاء الله – ، فالمسألة ليست كلأ مباحة لكل إنسان يُفتي بما تهواه نفسه لغرض سياسي أو حزبي أو حتى لغضب أو اختلاف ، فالقول فيهم يترتب عليه أمور كثيرة : من قتالهم وتفسيقهم – أو تكفيرهم – وتنزيل النصوص الواردة في الخوارج عليهم ، ولذلك كان لزاماً على من تصدّى لمثل هذا أن يعلم يقيناً من هم الخوارج ، وما النصوص التي جاءت فيهم ، وما هو قول الصحابة وعلماء المسلمين في هذه الفرقة المارقة ..
تعريف الخوارج :
قال ابن حجر في الفتح : ” أما الخوارج فهم جمع خارجة : أي طائفة ، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين” ..( انتهى) ..
وقال الشهرستاني في “المِلل والنِّحَل” : “كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يكون خارجياً ، سواء كان الخروج أيام الصحابة على الأئمة الراشدين ، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان ، والأئمة في كل زمان” .(انتهى) ..
فهنا اشترط الشهرستاني أن يكون الخروج على “أئمة الحق” ، وابن حجر قال بخروجهم على “خيار المسلمين” ، أما أئمة الجور فالخارج عليهم ليس بخارجي ، وإن كان علماء السنة اختلفوا في جواز الخروج على أئمة الجور ، وأما من ارتدّ من الحكام بأي نوع من أنواع الردّة المعلومة – كأن يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله ويلزم الناس بالتحاكم لغير شرع الله ، أو يوالي أعداء الله ويظاهرهم على المسلمين ، أو يُحلّ ما عُلم حرمته أو يحرم ما عُلم حلّه من الدين بالضروروة – فالخروج على مثل هذا الحاكم واجب ..
اختلاف العلماء في الخوارج :
من العلماء من قال بأن الخوارج : هم من خرجوا على علي رضي الله عنه خاصة ، وممن قال بهذا : الإمام الأشعري وغيره من السلف والمعاصرين ..
ومن العلماء من يقول بأن الخوارج : هم من خرج على الإمام المسلم المتَّفق على إمامته الشرعية في أي زمان كان ، وهذا رأي الشهرستاني ، وغيره ..
والبعض ذكر الإعتقاد مع العمل السياسي ، كابن حزم ، حيث قال : “ومَن وافق الخوارج من إنكار التحكيم [بين علي ومعاوية رضي الله عنهما] ، وتكفير أصحاب الكبائر ، والقول بالخروج على أئمة الجور ، وأن أصحاب الكبائر مخلّدون في النار ، وأن الإمامة [العظمى] جائزة في غير قريش ، فهو خارجي ، وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون ، خالفهم فيما ذكرنا فليس بخارجي” (الفصل في الملل والنحل) ..
قصة ظهور الخوارج كفرقة :
ذَكر أمر ظهور الخوارج الكثير من العلماء : منهم ابن كثير في “البداية والنهاية” ، والطبري في تاريخه ، والبغدادي في “الفَرق بين الفِرَق” ، وابن تيمية في مجموع الفتاوى (وسيأتي) ، وابن الأثير في الكامل ، وغيرهم كثير ، وقد أُلّفت كُتب كثيرة في شأنهم .. وهذه قصة الخوارج – مختصرة – كما أوردها ابن حجر في فتح الباري :
“وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان ، فطعنوا على عثمان بذلك ، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة ، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ، ويستبدّون برأيهم ، ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك ، فلما قُتل عثمان قاتلوا مع علي ، واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه !! واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير ، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة ، وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك ، فبلغ علياً فخرج إليهم ، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة وانتصر عليّ ، وقُتل طلحة في المعركة وقُتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة ..
فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق ، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك ، وكان أمير الشام إذ ذاك ، وكان علي أرسل إليه لأن يُبايع له أهل الشام فاعتل بأن عثمان قُتل مظلوما وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قَتلته ، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك ، ويلتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك ، وعلي يقول : “ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إليّ أحكم فيهم بالحق” ..
فلما طال الأمر خرج : عليّ في أهل العراق طالباً قتال أهل الشام ، فخرج معاوية في أهل الشام قاصداً إلى قتاله ، فالتقيا بصفِّين ، فدامت الحرب بينهما أشهراً ، وكاد أهل الشام أن ينكسروا ، فرفعوا المصاحف على الرماح ، ونادوا : “ندعوكم إلى كتاب الله تعالى” ، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص ، وهو مع معاوية ، فترك جمع كثير ممن كان مع علي – وخصوصاً القراء – القتال بسبب ذلك تديّناً ، واحتجوا بقوله تعالى {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} الآية ، فراسلوا أهل الشام في ذلك ، فقالوا : “ابعثوا حكماً منكم وحكماً منا ، ويحضر معهما من لم يباشر القتال ، فمن رأوا الحق معه أطاعوه” ، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك ، وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج !! وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام : “هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين على معاوية” ، فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا : “اكتبوا اسمه واسم أبيه” ، فأجاب علي إلى ذلك ، فأنكره عليه الخوارج أيضا !!
ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عيّنوها في مكان وسط بين الشام والعراق ، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم ، فرجع معاوية إلى الشام ، ورجع علي إلى الكوفة ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف ، وقيل كانوا أكثر من عشرة آلاف ، وقيل ستة آلاف ، ونزلوا مكانا يقال له “حَرُوراء” – بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة – ومن ثم قيل لهم “الحرورية” ، وكان كبيرهم عبد الله بن الكَوّاء – بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد – اليشكري ، وشَبث – بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة – التميمي ، فأرسل إليهم عليٌّ : ابن عباس ، فناظرهم ، فرجع كثير منهم معه ، ثم خرج إليهم عليٌّ فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران ، ثم أشاعوا أن علياً تاب من الحكومة ، ولذلك رجعوا معه ، فبلغ ذلك علياً فخطب وأنكر ذلك ، فتنادوا من جوانب المسجد : “لا حكم إلا لله” ، فقال [علي] : “كلمة حق يراد بها باطل” ، فقال لهم : “لكم علينا ثلاثة : أن لا نمنعكم من المساجد ، ولا من رزقكم من الفيء ، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا” ..
وخرجوا شيئا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن ، فراسلهم في الرجوع ، فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب ، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل رسوله ، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله ، وانتقلوا إلى الفعل : فاستعرضوا الناس ، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين ، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت – وكان والياً لعلي على بعض تلك البلاد – ومعه سريّة وهي حامل ، فقتلوه وبقروا بطن سريّته عن ولد ، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام ، فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة ، ولا قُتل ممن معه إلا نحو العشرة ، فهذا ملخص أول أمرهم ، ثم انضم إلى من بقي منهم مَن مالَ إلى رأيهم ، فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل علياً بعد أن دخل عليُّ في صلاة الصبح ، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النجيلة ، ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة معاوية وولده يزيد ، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل ، فلما مات يزيد ، ووقع الافتراق ، وولي الخلافة عبد الله بن الزبير وأطاعه أهل الأمصار – إلا بعض أهل الشام – ثار مروان [بن الحكم] فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلى مصر ، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق ، وباليمامة مع نجدة بن عامر ، وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم ..
وعظم البلاء بهم ، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد : فأبطلوا رجم المحصن ، وقطعوا يد السارق من الإبط ، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها ، وكفّروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا ، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة ، وحُكم مرتكب الكبيرة عندهم حُكم الكافر ، وكفّوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا ، وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب ، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة منهم ، ومنهم من يدعو أولا ثم يفتك ..
ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أُمّر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم ، وتقلل جمعهم ، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية ، ودخلت طائفة منهم المغرب .. وقد صنف في أخبارهم أبو مِخْنَف – بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء ، واسمه لوط بن يحيى – كتابا لخّصه الطبري في تاريخه ، وصنّف في أخبارهم أيضا الهيثم بن عدي كتاباً ، ومحمد بن قدامة الجوهري – أحد شيوخ البخاري ، خارج الصحيح – كتاباً كبيراً ، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه الكامل ، لكن بغير أسانيد ، بخلاف المذكورين قبله ..
قال القاضي أبو بكر بن العربي : الخوارج صنفان : أحدهما يزعم أن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار ، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدا .. وقال غيره : بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم .. وقال ابن حزم : ذهب نجدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عذب بغير النار ، ومن أدمن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار ، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس وقال الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ، ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت ، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن ، وأن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه !! وقال أبو منصور البغدادي في المقالات : عدة فرق الخوارج عشرون فرقة ، وقال ابن حزم : أسوؤهم حالاً الغلاة المذكورون ، وأقربهم إلى قول أهل الحق الإباضية وقد بقيت منهم بقية بالمغرب” (انتهى من فتح الباري لابن حجر) ..
فِرَق الخوارج :
قال الشهرستاني : “وكبار الفرق منهم : المُحكّمة ، والأزارقة ، والنجدات ، والبيهسية ، والعجاردة ، والثعالبة ، والإباضية ، والصفريّة ، والباقون فروعهم” (الملل والنحل) ..
فالمحكّمة الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ورفضوا التحكيم بعد أن أجبروه عليه ، وهؤلاء هم الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسل أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس وسيقاتلهم أولى الطائفيتين بالحق ، فهم أول من خرج في جماعة ، وفيهم كان ذو الثديّة ، والظاهر أنهم سُمّوا بالمحكّمة لشعارهم الذي رفعوه “لا حكم إلا لله” ، وهي “كلمة حق يراد بها باطل” كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ..
والأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي (من بني حنيفه) خرج في البصرة ، وهم من أشد الخوارج وأكثرهم غلواً ، ولهم واجتهادات غريبة ، وقد بادت هذه الفرقة ..
والنجدات أتباع نجدة بن عامر (أو عويم) الحنفي خرج في اليمامة ، ويقال لهم العاذرية لأنهم عذروا بالجهالات في أحكام الفروع ، وقد انقرضت هذه الفرقة ..
أما البيهسيّة فأتباع أبي بيهس الهيصم بن جابر ، سُجن وقُتل بأمر الوليد بن عبد الملك ..
والعجاردة أتباع عبد الكريم بن عجرد ، وكانوا في خراسان ..
والثعالبة أصحاب ثعلبة بن عامر ..
والإباضية أتباع عبد الله بن إباض التميمي (من اليمامة) الذي خرج في أيام مروان بن محمد ، ولعلهم أقل الخوارج غلواً ، وهم باقون في عُمان والمغرب العربي ، وأباضية اليوم ينفون عن أنفسهم صفة الخارجية ..
أما الصُّفْريّة (أو الزياديّة) فهم أتباع زياد بن الأصفر ، ظهروا في المغرب الأقصى وكانت لهم دولة ..
قال الأشعري في المقالات : ” وللخوارج ألقاب: فمن ألقابهم الوصف لهم بأنهم “خوارج” ، ومن ألقابهم: “الحرورية” ، ومن ألقابهم “الشُّراة” ، و”الحرارية” ، ومن ألقابهم “المارقة” ، ومن ألقابهم “المحكّمة” .. وهم [الخوارج الأوائل] يرضون بهذه الألقاب كلها إلا المارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية .. والسبب الذي له سموا خوارج : خروجهم على علي بن أبي طالب .. والذي له سموا محكمة : إنكارهم الحكمين وقولهم “لا حكم إلا لله” .. والذي سموا له حرورية : نزولهم بحروراء في أول أمرهم .. والذي له سموا شُراة ، قولهم : شرينا أنفسنا في طاعة الله ، أي بعناها بالجنة” . (انتهى) ..
المتتبع لتاريخ الخوارج وأخبارهم يلاحظ سرعة افتراقهم لأدنى سبب ، فتجد كل مَن خالف جماعته في جزئية أو رأي خرج عليها وكفّرها وصار هو ومن على رأيه جماعة مستقلّة ، بل تكون هي جماعة المسلمين !! فهذه الجماعات الأم تحتها الكثير من الجماعات الصغيرة ، فبعضهم لا يتعدى بضع عشرات ، وأكثرهم يكفّرون الجماعات الأخرى ، وقد زعم البغدادي في “الفَرق بين الفِرق” : أن الخوارج عشرون فرقة ، والحقيقة أنهم أكثر من ذلك ، ولهم اجتهادت غريبة عجيبة لا يتصوّرها العاقل ذكر بعضها الإمام ابن حزم في “الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل” باب “ذكر شنع الخوارج” ، وجرأتهم على سل السيف من أجل هذه الأجتهادات أغرب من اجتهاداتهم !!
حكم العلماء في الخوارج :
جمهور أهل العلم على أن الخوارج فسّاق وليسوا كفّاراً ، قال ابن بطال “ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين” (فتح الباري) ، وممن قال بعدم كفرهم : علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن عباس ، وابن تيمية الذي ذكر إجماع الصحابة على عدم تكفيرهم ، والشاطبي ، والشافعي ، وابو حنيفة ، والنووي وغيرهم من أئمة المسلمين ..
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (5/247) : “ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلّون خلفهم ، وكان عبدالله بن عمر – رضي الله عنه – وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري ، وكانوا أيضا يحدّثونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم ، كما كان عبدالله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل ، وحديثه في البخاري ، وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة ، وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان ، وما زالت سيرة المسلمين على هذا ، ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق .
هذا مع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة وما روي من أنهم “شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتيل من قتلوه” في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره ، أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم ، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم ، مكفّرين لهم ، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة ، ومع هذا فالصحابة – رضي الله عنهم – والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل ، بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة” (انتهى كلام ابن تيمية) ..
وممن توقف في تكفيرهم : الإمام أحمد والباقلاني والجويني والغزالي وغيرهم ، ونقل ابن رجب في الفتح (ج4) عن الإمام أحمد فقال : “وقال في الخوارج : إذا تغلبوا على بلد : صلي خلفهم .. وقال – مرة – : يصلى خلفهم الجمعة ؛ صلى ابن عمر خلف نجدة الحروري” (انتهى) ، وقال قبلها : “فقال أبو عبيد فيمن صلى خلف الجهمي أو الرافضي : يعيد . ومن صلى خلف قدري أو مرجىء أو خارجي : لا آمره بالإعادة” (انتهى) ..
وقال ابن تيمية : “والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان : منهم من يرى قتال عليّ يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغي ، وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة ، وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فساقاً بل هم عدول ، فقالوا : إن أهل البغي عدول مع قتالهم وهم مخطئون خطأ المجتهدين في الفروع”. (الفتاوى : ج28)
وقال : “فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد وفي مذهب الشافعي أيضا نزاع في كفرهم . ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى : أحدهما أنهم بغاة ، والثاني أنهم كفار كالمرتدين يجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قُدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل ، كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها ؟ على روايتين ، وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة ، وقتال علي للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين . فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عن أصل الإسلام ، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره ، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين بل هم نوع ثالث . وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم”. (الفتاوى الكبرى : ج3) ..
وقد ذكر ابن حجر في الفتح بعض من كفّرهم من العلماء فقال : “وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة بالآية المذكورة فيها واستدل به لمن قال بتكفير الخوارج ، وهو مقتضى صنيع البخاري حيث قرنهم بالملحدين وأفرد عنهم المتأولين بترجمة ، وبذلك صرّح القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي فقال : الصحيح أنهم كفار لقوله صلى الله عليه وسلم “يمرقون من الإسلام” ولقوله “لأقتلنهم قتل عاد” ، وفي لفظ “ثمود” ، وكل منهما إنما هلك بالكفر ، وبقوله “هم شر الخلق” ، ولا يوصف بذلك إلا الكفار ، ولقوله “إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى” ، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم : بالكفر والتخليد في النار ، فكانوا هم أحق بالاسم منهم .. وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين : الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه : احتج من كفّر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة ، قال : وهو عندي احتجاج صحيح . يستدعي تقدم علمهم بالشهادة المذكورة علماً قطعياً ، وفيه نظر ، لأنا نعلم تزكية من كفّروه علماً قطعياً إلى حين موته ، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفّرهم ، ويؤيده حديث “من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما” وفي لفظ مسلم “من رمى مسلما بالكفر أو قال عدو الله إلا حاد عليه” ، قال : وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع ، وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ونحوه ممن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فسروا الكفر بالجحود ، فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك ، قلنا : وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه علماً قطعياً ، ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالا والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم ، كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك [انتهى كلام السبكي] ..
قلت [الكلام لا زال لابن حجر] : وممن جنح إلى بعض هذا البحث : الطبري في تهذيبه فقال بعد أن سرد أحاديث الباب : فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما ، فإنه مبطل لقوله في الحديث “يقولون الحق ويقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء” ، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطإ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه .. ثم أخرج بسند صحيح عن بن عباس وذكر عنده الخوارج وما يلقون عند قراءة القرآن فقال : يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه .. ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع ما تقدم من حديث بن مسعود “لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث” وفيه “التارك لدينه المفارق للجماعة” ، قال القرطبي في المفهم : يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد – يعني الآتي في الباب الذي يليه – فإن ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشيء كما خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرمية بشيء ، وقد أشار إلى ذلك بقوله “سبق الفرث والدم” ، وقال صاحب الشفاء فيه : وكذا نقطع بكفر كل من قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة .. وحكاه صاحب الروضة في كتاب الردة عنه وأقره .. (انتهى من فتح الباري) ..
ثم ذكر ابن حجر الرأي الآخر فقال : “وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فسّاق ، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام ، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد ، وجرّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك ، وقال الخطابي : أجمع علماء المسلمين [لعله يقصد في زمن الصحابة ، لأن الخلاف ورد فيهم بعد الصحابة] على أن الخوارج – مع ضلالتهم – فرقة من فرق المسلمين ، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام .. وقال عياض : كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من غيرها حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين .. قال : وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني ، وقال : لم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر .. وقال الغزالي في كتاب “التفرقة بين الإيمان والزندقة” : والذي ينبغي : الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا ، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد .. ومما احتج به من لم يكفّرهم قوله في ثالث أحاديث الباب – بعد وصفهم بالمروق من الدين كمروق السهم فينظر الرامي إلى سهمه – إلى أن قال : “فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء” ، قال ابن بطال : ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله “يتمارى في الفوق” ، لأن التماري من الشك ، وإذ وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام ، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين ..قال : وقد سُئل علي عن أهل النهر هل كفروا ؟ فقال : من الكفر فروا ..
قلت : وهذا إن ثبت عن علي ، حُمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفّرهم .. وفي احتجاجه بقوله “يتمارى في الفوق” نظر ، فإن في بعض طرق الحديث المذكور – كما تقدمت الإشارة إليه وكما سيأتي – لم يعلق منه بشيء ، وفي بعضها “سيق الفرث والدم” ، وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا ، ثم تحقق أنه لم يعلق بالسهم ولا بشيء منه من الرمي بشيء ، ويمكن أن يحمل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم ، ويكون في قوله “يتمارى” إشارة إلى أن بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء .. قال القرطبي في المفهم : والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث .. قال : فعلى القول بتكفيرهم يقاتَلون ويُقتلون وتسبى أموالهم ، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج ، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا ونصبوا الحرب ، فأما من استسر منهم ببدعة : فإذا ظهر عليه هل يُقتل بعد الاستتابة أو لا يقتل بل يجتهد في رد بدعته ؟ اختُلف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم .. قال : وباب التكفير باب خطر ، ولا نعدل بالسلامة شيئا ..
قال : وفي الحديث علم من أعلام النبوة حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع ، وذلك أن الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دمائهم وتركوا أهل الذمة فقالوا : نفي لهم بعهدهم ، وتركوا قتال المشركين واشتغلوا بقتال المسلمين !! وهذا كله من آثار عبادة الجهّال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم ولم يتمسكوا بحبل وثيق من العلم ، وكفى أن رأسهم ردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ونسبه إلى الجور !! نسأل الله السلامة .. قال ابن هبيرة : وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين ، والحكمة فيه : أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام ، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح ، وحفظ رأس المال أولى ، وفيه الزجر عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل التي يفضي القول بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف ، وفيه التحذير من الغلو في الديانة والتنطع في العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع ، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة ، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار وإلى الرأفة بالمؤمنين : فعكس ذلك الخوارج كما تقدم بيانه ، وفيه : جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل ، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد ، ومن خرج يقطع الطرق ويخيف السبيل ويسعى في الأرض بالفساد ، وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور ولا يحل قتاله ، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته” .. (انتهى من فتح الباري : ج12)
وقال الكمال ابن الهمام: “وحُكم الخوارج عند جمهور الفقهاء والمحدثين حكم البغاة ، وذهب بعض المحدثين إلى كفرهم . قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم. وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء”. (انظر “حاشية ابن عابدين” ج6) ..
فهذا مُجمل أقوال العلماء في الخوارج ، والإختلاف فيهم كبير : لاختلاف فهم النصوص ، ولإختلاف أقوال الخوارج ذاتهم ، ولاختلاف معرفة كل فقيه بحقيقة أحوالهم وأقوالهم ، والمختار رأي الجمهور أنهم فُسّاق وليسوا كفاراً ، وذلك أن أفقه هذه الأمة من الصحابة الذين سمعوا الأحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم وعقلوه عنه وعاصروا الخوارج وقاتلوهم : لم يُكفّروهم ، ولا يُلام من كفّرهم لظاهر الأحاديث ولعظم خطرهم وكثرة أقوالهم اللاحقة التي تخالف ما عُلم من الدين بالضرورة ، والذين لم يُكفّروهم : علموا صدقهم وإخلاصهم ، ثم علموا جهلهم وقلّة عقولهم ..
لا شك ان من اجتمعت فيه الصفات الواردة في الأحاديث يكون خارجياً مذهباً وعقيدة ، فمن خرج على علي من المحكّمة والحرورية لا شك أنه خارجي ، ومن اتبع نافع بن الأزرق ونجدة الحنفي وأمثالهم في ذلك الزمان لا شك أنه خارجي ، ولكن هناك أسئلة ملحّة تحتاج إلى إجابات علمية شافية ، منها :
1- هل بقيت الخارجية إلى يومنا هذا ؟
2- هل غيْر الخارجين على علي – خلال وبعد صفين – تنطبق عليهم الأحاديث ؟
3- من لم تنطبق عليه الأحاديث ولكن أخذ ببعض اعتقادات الخوارج ، هل يكون خارجياً بالمعنى الوارد في النصوص .. كالإباضية مثلاً ؟
إذا قلنا بأن الخارجية باقية ، ولم نأخذ برأي من قال أنها التي خرجت على علي فقط : فإن إطلاق الحكم على جماعة اليوم بأنها من الخوارج أمر يصعب تحقيقه من الناحية العلمية ، فالخوارج فرق كثيرة متشعبة مختلفة فيما بينها اختلافاً كبيراً : فمنها الغالية ، ومنها المعتدلة نسبياً ، على اختلاف بينهم في كثير من الفروع وبعض الأصول ، فالقول بأن هذه الجماعة أو تلك خارجية يحتاج إلى تفصيل ومعرفة بأقوال الفرق المتشعبة عن الخوارج وبحث عن تطابق الإعتقاد مع فرقة بعينها ليكون القول صحيحاً من الناحية العلمية ، ولا بد أن تكون هذه الجماعة تؤمن أو تعتقد بالحد الأدنى المتفق عليه بين الخوارج ، ولا يستقيم عقلاً أن تكون فرقة “خارجية” إلا أن تعتقد بهذا الحد الأدنى ، فالعلماء – مثلاً – يقولون بأن الإباضية فرقة خارجية باقية ، ولها أصول وقواعد تشبه أقوال الخوارج إلى حد كبير – كالقول بخلق القرآن وتعطيل الصفات وتجويز الجروج على أئمة الجور وخلود العصاة في جهنم وعدم اشتراط القرشية في الإمام – ، ومؤسسها عبد الله بن إباض التميمي كان يعتبر نفسه امتداداً للمحكّمة الأولى ، ولهذا يصنفها العلماء ضمن فرق الخوارج ، وإن كان الإباضية ينفون هذا عن أنفسهم ، فتصنيفهم جاء بناء على أصولهم وقواعدهم وليس على صفاتهم أو أفعالهم ، وإن اعتمدنا صفات وأفعال الإباضية اليوم فإننا قطعاً لا نحكم عليهم بالخارجية لأن ألفاظ الأحاديث النبوية – التي يأتي ذكرها – لا تنطبق عليهم ..
إن كان الإباضية اليوم خوارج فهل نجري عليهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب قتالهم وإبادتهم وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء وأنهم كلاب أهل النار !! هل لازم هذا القول يلزم الأثر المترتب عليه ؟ لا أعرف من علماء المسلمين من يقول بهذا عن الإباضية ..
بداية ظهور الفكر الخارجي ، وحديث ذو الخويصرة :
أوّل ظهور الفكر الخارجي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء ذلك في أحاديث بألفاظ مختلفة ، ومفاد القصة : أن علياً رضي الله عنه أرسل بعض المال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بتوزيع هذا المال على بعض رجالات نجد ، فغضبت قريش والأنصار ، وبينما هم كذلك : أَتى رجلٌ من الأعراب – قليل العقل عديم الأدب – يعترض على النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله !! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه ، ثم استأذن بعض الصحابة في قتل هذا السفيه ، فلم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنه سيكون على رأي هذا أناس لهم من العبادات والإجتهادات ما يفوق عبادة الصحابة ، ولكنهم يمرقون من الإسلام لقلة عقولهم وطيشهم وجهلهم بالدين ، وأنهم سيخرجون على حين فتنة وفرقة في الأمة ، وأن علامتهم رجل في عضده مثل ثدي المرأة ، وأنه سيقاتلهم أولى الفريقين بالحق ..
جاء هذا الحديث – وغيره من أحاديث الخوارج – بألفاظ مختلفة ، والسبب في ذلك هو السبب في اختلاف ألفاظ الأحاديث بوجه عام ، والتي منها : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال الكلام في أكثر من مناسبة بألفاظ مختلفة ، أو أن بعض الرواة روى الحديث بالمعنى وليس بلفظه ، أو أن البعض حفظ ما لم يحفظه غيره فكان كلامه زائداً على غيره ، أو أن ينسى بعض الرواة بعض الكلام ، أو أن بعض الرواة لم يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم كاملاً فروى ما سمع فقط ، أو غيرها من الأسباب ، فبجمع طرق الحديث ورواياته المتعددة يحصل الإلمام بالحادثة أو الحكم أو الخبر أو المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم ..
وهذه أكثر ألفاظ حديث ذو الخويصرة :
خرّج البخاري من حديث أبي سعيد قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسِم : جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال : “اعدل يا رسول الله” ، فقال : “ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل” . قال عمر بن الخطاب ائذن لي فأضرب عنقه .. قال : “دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته ، وصيامه مع صيامه ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية … آيتهم رجل إحدى يديه – أو قال ثدييه – مثل ثدي المرأة ، أو قال مثل البضعة – تدردر ، يخرجون على حين فرقة من الناس” .. قال أبو سعيد : أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه ، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فنزلت فيه {ومنهم من يلمزك في الصدقات}” (الحديث مختصراً) ..
وفي رواية عند مسلم : ” فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق ، فقال : “معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي” .. وفي رواية عند البخاري : بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذُهبية فقسمها بين الأربعة : الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي ، وعيينة بن بدر الفزاري ، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان ، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب ، فغضبت قريش والأنصار ، قالوا : يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا ! قال : “إنما أتألفهم” ، ثم ذكر بقية الحديث ..
فائدة : قال ابن حجر في الفتح في سبب عدم قتل ذي الخويصرة : “وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المذكور لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه ، فلو قَتل من ظاهره الصلاح عند الناس – قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في القلوب – لنفّرهم عن الدخول في الإسلام ، وأما بعده – صلى الله عليه وسلم – فلا يجوز ترك قتالهم إذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا الأئمة ، مع القدرة على قتالهم” (انتهى) ..
هذا الحديث أصل في خروج الخوارج أورده أئمة الحديث في كتبهم ، ولعل محاولة جمع ألفاظ هذا الحديث من الكتب الستة ، وما جاء عن الخوارج بألفاظٍ مختلفة فيها – وفي غيرها – يوضّح الصورة الكاملة لهذه الفرقة من الأثر ، والمقصود جمع الألفاظ الصحيحة والحسنة ، ولا حاجة لتخريج كل رواية من جميع المصادر ، بل يكفي تخريجها من مصدرٍ واحد ، طلباً للإختصار :
في وصف ذي الخويصرة التميمي الذي هو أول الخوارج :
قالوا : “رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق” (البخاري)
وفي رواية “… ناشز الجبهة ، كث اللحية ، محلوق الرأس ، مشمّر الإزار” (مسلم)
وفي رواية : “رجل مطموم الشعر ، آدم ، أو أسود ، بين عينيه أثر السجود ، عليه ثوبان أبيضان” (أحمد وهو صحيح لغيره) ..
في أن خالد بن الوليد طلب قتل ذو الخويصرة :
جاء في رواية الحديث أعلاه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلب قتل ذي الخويصرة ، وفي روايات أخرى أن خالداً طلب ذلك أيظا ، ولعل كلاهما طلبا ذلك كما قال بعض العلماء ، وهذا نص الحديث الذي فيه خالد رضي الله عنه : “قال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال “لا لعله أن يكون يصلي” . فقال خالد : وكم من مصلِّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إني لم أومر أن أنقّب قلوب الناس ولا أشق بطونهم” (البخاري) ..
في وصف الرجل الذي كان مع الخوارج الذين قتلهم علي رضي الله عنه :
ذكر علي رضي الله عنه صفة هذا الرجل لأصحابه قبل أن يقاتل الخوارج ، فلما قاتلهم ذهبوا ليبحثوا عنه فلم يجدوه ، وأصرّ علي أنه فيهم وأنّه لم يَكذب ولم يُكذَب ، فوجودا قتلى على بعضهم فأزاحوهم وإذا بالرجل ، وهذه صفته : “آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر” (البخاري)
وعن علي قال “وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ، وليس له ذراع ، على رأس عضده مثل حلمة الثدي ، عليه شعرات بيض” (مسلم)
وقال علي رضي الله عنه : “منهم أسود ، إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي” (مسلم)
وقال علي : “فيهم رجل مخدج اليد ، أو مودن اليد ، أو مثدون اليد” (ابن ماجه وصححه الألباني)
وقال أبو الوضىء : “فكأني أنظر إليه حبشي عليه قريطق ، له إحدى يدين مثل ثدي المرأة عليها شعيرات مثل شعيرات التى تكون على ذنب اليربوع” (أبو داود وصحح إسناده الألباني) ..
في وصف الخوارج وصفتهم وبيان حالهم :
قال عليه الصلاة والسلام : “يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم …” (البخاري)
وقال “حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم” (البخاري)
وجاء : “هم شر الخلق – أو – من أشر الخلق” (مسلم) ،
وجاء : “يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم” (مسلم) ..
وعن علي قال “يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم – وأشار إلى حلقه – من أبغض خلق الله إليه” ..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة” (مسلم)
وجاء “هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي” (أحمد ، وسنده حسن)
وجاء : “قوم يقرءون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم” (مسلم)
وجاء : “يتيه قوم قبل المشرق محلقة رءوسهم” (مسلم)
وجاء : “قوم يخرجون من المشرق” (أحمد : إسناده صحيح)
وجاء : “قوماً يتعبدون” (ابن ماجه وصححه الألباني)
وجاء : “الخوارج كلاب النار” (ابن ماجه وصححه الألباني ، وضعّفه البعض)
وجاء : “سيماهم التحليق” (ابن ماجه وصححه الألباني)
قال ابي أمامه ورفعه : “قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا” (حسنه الألباني)
وجاء : “يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان” (أبو داود وصححه الألباني)
وجاء : “قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل” (أبو داود وصححه الألباني)
وجاء : “سيماهم التحليق والتسبيد” (أبو داود وصححه الألباني) ، قال أبو داود : التسبيد استئصال الشعر ..
وجاء : “يقرءون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئا ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئا ، ولا صيامكم إلى صيامهم شيئا ، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم” (أبو داود وصححه الألباني)
وجاء : “أشدّاء أحدّاء ، ذلقة ألسنتهم بالقرآن ، لا يجاوز تراقيهم” (أحمد وإسناده قوي)
وجاء : “يسألون كتاب الله وهم أعداؤه ، يقرؤون كتاب الله ، محلقة رؤوسهم” (السنة لابن أبي عاصم ، قال الألباني : اسناده جيد)
وجاء : ” يخرج فيكم – أو يكون فيكم – قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم” (السنة لابن أبي عاصم ، قال الألباني : اسناده صحيح على شرط الشيخين) ..
متى يخرج الخوارج :
قال صلى الله عليه وسلم : ” يخرجون على حين فرقة من الناس” (مسلم)
وجاء : “تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين” (مسلم)
وجاء : “تكون في أمتي فرقتان ، فتخرج من بينهما مارقة” (مسلم)
وجاء : “تمرق مارقة في فرقة من الناس” (مسلم)
وجاء : “قوما يخرجون على فرقة مختلفة” (مسلم)
وجاء : “إن بعدي من أمتي ، أو سيكون بعدي من أمتي” (ابن ماجه وصححه الألباني)
وجاء : “كلما خرج قرن قُطع ، أكثر من عشرين مرة ، حتى يخرج في عراضهم الدجال” (ابن ماجه وحسنه الألباني ، وأعله بعضهم بأن الأوزاعي لم يسمع من نافع شيئا) ..
فحديث : “كلاب أهل النار” وقول “كلما خرج قرن قُطع ، أكثر من عشرين مرة ، حتى يخرج في عراضهم الدجال” مختلف في صحتهما ، والله أعلم ..
في الأمر بقتل الخوارج وقتالهم والحث عليه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “فأينما لقيتوهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيام” (البخاري)
وجاء : ” لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود” (البخاري)
وفي رواية “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد” (مسلم)
وجاء : “يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق” (مسلم)
وجاء : “يقتلها أولى الطائفتين بالحق” (مسلم)
وجاء : “يلي قتلهم أولاهم بالحق” (مسلم)
وجاء : “يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق” (مسلم)
وجاء : “فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة” (مسلم)
قال علي “ولولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم” (ابن ماجه وصححه الألباني)
وجاء : “فمن لقيهم فليقتلهم ، فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم” (ابن ماجه وصححه الألباني)
قال أبي أمامه ورفعه : “شر قتلى قُتلوا تحت أديم السماء ، وخير قتيل من قَتلوا” (ابن ماجه وحسنه الألباني)
وجاء : “من قاتلهم كان أولى بالله منهم” (أبو داود وصححه الألباني)
وجاء : ” فإذا رأيتموهم فأنيموهم” (أبو داود وصححه الألباني)
وجاء : “ألا فإذا رأيتموهم فأنيموهم ، ثم إذا رأيتموهم فأنيموهم ، فالمأجور قاتلهم” (أحمد وإسناده قوي)
وعن أبي أمامة ، ورفعه : “شر قتلى تحت ظل السماء ، ثلاثاً ، وخير قتلى تحت ظل السماء من قتلوه” (أحمد وهو صحيح) ..
في ذكر من روى أحاديث الخوارج :
قال ابن تيمية : “قال الإمام أحمد بن حنبل : “صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه ، وقد خرجها مسلم في صحيحه وخرج البخاري طائفة منها” (الفتاوى : ج3) .. قال ابن حجر في فتح الباري ، في شرح حديث “يمرقون من الدين” : “قال الطبري : ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب أو بعضه : عبد الله بن مسعود ، وأبو ذر ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، وحذيفة ، وأبو بكرة ، وعائشة ، وجابر ، وأبو برزة ، وأبو أمامة ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وسهل بن حنيف ، وسلمان الفارسي .. قلتُ [أي ابن حجر] : ورافع بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمار بن ياسر ، وجندب بن عبد الله البجلي ، وعبد الرحمن بن عريس ، وعقبة بن عامر ، وطلق بن علي ، وأبو هريرة” (انتهى) ..
مواضع ومصادر أحاديث الخوارج :
هناك أحاديث كثيرة وآثار في مصنف ابن أبي شيبة وغيره لم ننقلها لعدم معرفة صحة كثير منها ، وأكثر الأحاديث المرفوعة جاءت بهذه الألفاظ المنقولة فلا داعي لتكرارها .. ومن أراد الإستزادة فقد جاء ذكر الخوارج في كتاب السنة لابن أبي عاصم في باب “المارقة ، والحرورية ، والخوارج ، السابق لها خذلان خالقها” ، وفي البخاري في “كتاب استتابة المرتدين ، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم” و “باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه” ، و “باب علامات النبوة في الإسلام” و”باب سورة الكهف” ، وقد جمع الإمام مسلم جملة طيبة مما ورد فيهم في صحيحه في “كتاب الزكاة” ، وجاء ذكرهم في سنن ابن ماجه في “باب في ذكر الخوارج” ، وعند أبي داود في “كتاب السنة ، باب في قتل الخوارج” ، وعند الترمذي في “أبواب الفتن : باب في صفة المارقة” ، وعند النسائي في “كتاب تحريم الدم ، باب : من شهر سيفه ثم وضعه في الناس” ، وهناك أحاديث في مسند الأمام أحمد ، وجاء ذكرهم في كتب الملل والنحل والمذاهب ، وكتب العقيدة والفقه ، وكتب الفتاوى والتفسير وغيرها ..
مختصر ما ذكر ابن تيمية في الخوارج
وهذا مجموعٌ مختصر من كلام ابن تيمية في وصف الخوارج :
عقيدة الخوارج :
قال ابن تيمية: “وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين ؛ وهؤلاء مبتدعة ضلال ، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل” . (الفتاوى : ج1 – 108) ..
وقال: “والخوارج هم أول من كفّر المسلمين يكفرون بالذنوب ، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله” (الفتاوى : ج3) ..
وقال: “وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة” (الفتاوى : ج3) .. وقال : “كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع : الخوارج المارقون” (الفتاوى : ج3) ..
وقال: “فالخوارج لما فارقوا جماعة المسلمين وكفروهم واستحلوا قتالهم جاءت السنة بما جاء فيهم” (الفتاوى : ج3) ..
وقال: “الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار” (منهاج السنة : ج2) ..
وقال: “فأصل قول الخوارج أنهم يكفّرون بالذنب ، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب ، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب – وإن كانت متواترة – ويكفّرون من خالفهم ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي … ولهذا كفّروا عثمان وعلياً وشيعتهما ؛ وكفروا أهل صفين – الطائفتين – في نحو ذلك من المقالات الخبيثة” . (الفتاوى : ج3) .
وقال: “وكفّروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن والاهما وقتلوا علي بن أبي طالب مستحلين لقتله ، قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي منهم ، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة لكن كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة ؛ فقال هؤلاء : ما الناس إلا مؤمن أو كافر ؛ والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات ؛ فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلّد في النار. ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك فقالوا : إن عثمان وعليا ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفارا” .. (الفتاوى ج7) ..
وقال: “وكانت البدع الأولى – مثل بدعة الخوارج – إنما هي من سوء فهمهم للقرآن ، لم يقصدوا معارضته لكن فهموا منه ما لم يدل عليه فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب ؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي . قالوا : فمن لم يكن براً تقياً فهو كافر وهو مخلد في النار. ثم قالوا : وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين ؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله فكانت بدعتهم لها مقدمتان ، الواحدة : أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر . والثانية : أن عثمان وعليا ومن والاهما كانوا كذلك ؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام فكفّر أهلها المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم … وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن فكيف بمن تكون بدعته معارضة القرآن والإعراض عنه وهو مع ذلك يكفّر المسلمين كالجهمية ، ثم الشيعة لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين ؛ بل كان غرضه فاسداً ، وقد قيل إنه كان منافقاً زنديقاً ، فأصل بدعتهم مبنية على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيب الأحاديث الصحيحة؛ ولهذا لا يوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما يوجد فيهم بخلاف الخوارج فإنه لا يُعرف فيهم من يكذب”. (الفتاوى : ج13) ..
وقال: “طائفة من الخوارج يقولون : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – معصوم فيما يبلغه عن الله لا فيما يأمر هو به وينهى عنه. وهؤلاء ضلال باتفاق أهل السنة والجماعة” (منهاج السنة : ج3) ..
وقال: “قالت الخوارج والمعتزلة : قد علمنا يقينا أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان وإذا زال بعضه زال جميعه ؛ لأن الإيمان لا يتبعض ولا يكون في العبد إيمان ونفاق ، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء” . (الفتاوى : ج13) … “والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم ، فلا يرجمون الزاني ولا يرون للسرقة نصابا وحينئذ فقد يقولون : ليس في القرآن قتل المرتد ، فقد يكون المرتد عندهم نوعين. وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم ، لم نقف لهم على كتاب مصنف” (الفتاوى : ج13) ..
وقال: “وهم أول من كفّر أهل القبلة بالذنوب بل بما يرونه هم من الذنوب ، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك” (الفتاوى : ج7) ..
وقال: “وأصل مذهبهم تعظيم القرآن وطلب اتباعه لكن خرجوا عن السنة والجماعة فهم لا يرون اتباع السنة التي يظنون أنها تخالف القرآن : كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك فضلوا ، فإن الرسول أعلم بما أنزل الله عليه والله قد أنزل عليه الكتاب والحكمة وجوزوا على النبي أن يكون ظالما فلم ينفذوا لحكم النبي ولا لحكم الأئمة بعده ، بل قالوا : إن عثمان وعليا ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل الله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فكفّروا المسلمين بهذا وبغيره ، وتكفيرهم وتكفير سائر أهل البدع مبني على مقدمتين باطلتين : إحداهما : أن هذا يخالف القرآن. والثانية : أن من خالف القرآن يكفر ولو كان مخطئا أو مذنبا معتقدا للوجوب والتحريم” . (الفتاوى : ج13) ..
وقال: “فانتحلت الخوارج كتاب الله ، وانتحلت الشيعة أهل البيت ، وكلاهما غير متبع لما انتحله ؛ فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها وكفّروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم ، ولهذا تأوّل سعد بن أبي وقاص فيهم هذه الآية {وما يضل به إلا الفاسقين * لذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض} وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم ولا اتباع للسنة ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن” . (الفتاوى : ج13) ..
وقال: “ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم : أحدهما : خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم … والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته ولم يوجبوا طاعته ومتابعته وإنما صدّقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف – بزعمهم – ظاهر القرآن … الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع : أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة؛ وجمهور المعتزلة؛ والجهمية؛ وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم. فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أنها بدعة وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرا … فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بعض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة ، ومن كفّر المسلمين بما رآه ذنبا – سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً – وعاملهم معاملة الكفار ، فهو مفارق للجماعة”. (الفتاوى : ج19) ..
وقال: “من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج : أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات ، فيثاب على حسناته ويعاقب على سيئاته . ويحمد على حسناته ويذم على سيئاته . وأنه من وجهٍ مرضيّ محبوب ومن وجه بغيض مسخوط. فلهذا كان لأهل الإحداث : هذا الحكم”. (الفتاوى : ج27) ..
وقال: “وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه ، وجعلوا من خالف ذلك كافرا ، لاعتقادهم أنه خالف القرآن”. (درء تعارض العقل والنقل : ج1)
وقال: “ومن أعظم ما نقمه الخوارج على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين ، وهم . وإن كانوا جهالا [في ذلك] [فهو] يدل على أن التوبة لم تكن تنفّرهم ، وإنما نفرهم الإصرار على ما ظنوه هم ذنبا . والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفوراً عن أهلها ، حتى إنهم يكفّرون بالذنب ولا يحتملون لمقدَّمهم ذنبا ، ومع هذا فكل مقدَّم لهم تاب عظَّموه وأطاعوه ، ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا . وإن لم يكن ذنبا” (منهاج السنة : ج2)
ألقاب الخوارج :
قال ابن تيمية: “وهؤلاء الخوارج لهم أسماء يقال لهم : “الحرورية” لأنهم خرجوا بمكان يقال له حروراء ويقال لهم أهل النهروان : لأن عليا قاتلهم هناك . ومن أصنافهم “الإباضية” أتباع عبد الله بن إباض ، و”الأزارقة” أتباع نافع بن الأزرق ، و”النجدات” أصحاب نجدة الحروري” (الفتاوى : ج7) ..
موقف الصحابة منهم :
قال ابن تيمية: “لم يكن أحد من الصحابة من الخوارج” (الفتاى : ج1-249)
وقال: ” وقد قاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فلم يختلفوا في قتالهم” (الفتاوى : ج3) ..
وقال: “ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب رضي الله عنه واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم : إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء ، فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم : قاتلهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم” (الفتاوى : ج7) ..
وقال: “فكانت الحرورية قد ثبت قتالهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتفاق أصحابه ، ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين … والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدءوهم بالقتال” . (الفتاوى : ج7) ..
وقال: “قتال الخوارج مما أمر به صلى الله عليه وسلم ولذلك اتفق على قتالهم الصحابة والأئمة” (الفتاوى : ج7) ..
وقال: “معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون ، كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم (درء تعارض العقل والنقل : ج1) ..
المقارنة بين الخوارج وبين الرافضة والنصيرية :
قال ابن تيمية: “ولا ريب أنهم [أي الرافضة] شر من الخوارج : لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة ، وموالاتهم [أي الرافضة] الكفار أعظم من سيوف الخوارج : فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة وهم منتسبون إليهم ، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق؛ والروافض معروفون بالكذب. والخوارج مرقوا من الإسلام ، وهؤلاء نابذوا الإسلام” . (الفتاوى : ج3) ..
وقال: ” شُبه الرافضة أظهر فسادا من شبه الخوارج والنواصب ، والخوارج أصح منهم عقلا وقصدا ، والرافضة أكذب وأفسد دينا” (منهاج السنّة : ج2) ..
وقال: “وبإزائهم [أي بإزاء الخوارج] “الشيعة” : غلوا في الأئمة وجعلوهم معصومين يعلمون كل شيء وأوجبوا الرجوع إليهم في جميع ما جاءت به الرسل فلا يعرجون لا على القرآن ولا على السنة؛ بل على قول من ظنوه معصوما ، وانتهى الأمر إلى الائتمام بإمام معدوم لا حقيقة له فكانوا أضل من الخوارج : فإن أولئك يرجعون إلى القرآن وهو حق وإن غلطوا فيه ، وهؤلاء لا يرجعون إلى شيء بل إلى معدوم لا حقيقة له” (الفتاوى : ج13) ..
وقال : “ولكن الخوارج دينهم المعظم مفارقة جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم ، والشيعة تختار هذا لكنهم عاجزون ، والزيدية تفعل هذا ، والإمامية تارة تفعله وتارة يقولون لا نقتل إلا تحت راية إمام معصوم ، والشيعة استتبعوا أعداء الملة من الملاحدة والباطنية وغيرهم ، ولهذا أوصت الملاحدة – مثل القرامطة الذين كانوا في البحرين وهم من أكفر الخلق ومثل قرامطة المغرب ومصر وهم كانوا يستترون بالتشيع – أوصوا بأن يُدخل على المسلمين من باب التشيع فإنهم يفتحون الباب لكل عدو للإسلام من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين ، وهم من أبعد الناس عن القرآن والحديث” (الفتاوى : ج13) ..
وقال: ” والخوارج أكثر وأعقل وأدين من الذين ادعوا فيه [أي في علي] الإلهية [وهم النصيرية وغيرهم من الرافضة] ، فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا ، وجعلت هذه الدعوى منقبة ، كان دعوى المبغضين له ودعوى الخوارج مثلبة أقوى وأقوى ، وأين الخوارج من الرافضة الغالية ؟! فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصياماً [وقراءة للقران] ، ولهم جيوش وعساكر ، وهم متدينون بدين الإسلام باطناً وظاهرا. والغالية المدّعون للإلهية إما أن يكونوا من أجهل الناس وإما أن يكونوا من أكفر الناس ، والغالية كفار بإجماع العلماء ، وأما الخوارج فلا يكفّرهم إلا من يكفّر الإمامية ، فإنهم خير من الإمامية ، وعلي رضى الله عنه لم يكن يكفرهم ، ولا أمر بقتل الواحد المقدور عليه منهم ، كما أمر بتحريق الغالية ، بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على سرح الناس”. (منهاج السنة : ج4) ..
وقال: “وهم [أي الخوارج] مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن ، فكيف بمن تكون بدعته معارضة القرآن والإعراض عنه وهو مع ذلك يكفّر المسلمين كالجهمية ثم “الشيعة” لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين ؛ بل كان غرضه فاسدا وقد قيل إنه كان منافقا زنديقا فأصل بدعتهم مبنية على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيب الأحاديث الصحيحة؛ ولهذا لا يوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما يوجد فيهم بخلاف الخوارج فإنه لا يعرف فيهم من يكذب”. (الفتاوى : ج13)
وقال : ” الخوارج أجرأ على السيف والقتال منهم [أي الرافضة] ، فلإظهار القول ومقاتلة المسلمين عليه جاء فيهم ما لا يجيء فيمن هم من جنس المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم” (منهاج السنة : ج3) ..
وقال: “وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخل فيها العلماء لفظا أو معنى من كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين ؛ بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية ؛ مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية ، وكل من اعتقد في بشر أنه إله أو في غير الأنبياء أنه نبي وقاتل على ذلك المسلمين : فهو شر من الخوارج الحرورية . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده ؛ بل أولهم خرج في حياته. فذكرهم لقربهم من زمانه كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها في ذلك الزمان (الفتاوى : ج28) ..
وقال : “فإن الخوارج الذين مرقوا من عسكر علي – رضي الله عنه – هم شر من شرار عسكر معاوية – رضي الله عنه -. ولهذا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقتالهم ، وأجمع الصحابة والعلماء على قتالهم . والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل ، وأقرب إلى الكفر والنفاق ، [لكنهم] أعجز منهم وأذل” (منهاج السنة : ج4) ..
وقال: “ومذهب الرافضة شر من مذهب الخوارج المارقين ، فإن الخوارج غايتهم تكفير عثمان وعلي وشيعتهما ، والرافضة تكفر أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور السابقين الأولين ، وتجحد من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعظم مما جحد به الخوارج ، وفيهم من الكذب والافتراء والغلو والإلحاد ما ليس في الخوارج ، وفيهم من معاونة الكفار على المسلمين ما ليس من الخوارج ، والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل بدولة المسلمين ، والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين ، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام ، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم ، وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس …. وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيداً ومسرة عند الرافضة ، ودخل في الرافضة أهل الزندقة والإلحاد من : النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم من الملاحدة القرامطة وغيرهم ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك ، والرافضة جهمية قدرية ، وفيهم من الكذب والبدع والافتراء على الله ورسوله أعظم مما في الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي وسائر الصحابة بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما في مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة ، ومن أعظم ما ذم به النبي – صلى الله عليه وسلم – الخوارج قوله: “فهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأديان” … والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين ، والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين ، فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكفار مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار ، فكانوا أعظم مروقا عن الدين من أولئك المارقين بكثير كثير”. (الفتاوى الكبرى : ج3) ..
وقال: “فثبت بالإجماع من علي ومن سائر الصحابة والعلماء أن الخوارج خير من الغالية” [أي غالية الرافضة من النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم] (منهاج السنة : ج4) ..
متى خرجت الخوارج :
قال ابن تيمية: “قد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى قسمة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: “يا محمد اعدل فإنك لم تعدل” … (الفتاوى : ج3) .
وقال : “أول البدع ظهورا في الإسلام وأظهرها ذما في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة ؛ فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه : اعدل يا محمد فإنك لم تعدل ! وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم ، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضة بوصفهم وذمهم والأمر بقتالهم” (الفتاوى : ج19)
وقال: “لما قُتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وسار علي بن أبي طالب إلى العراق وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل ثم يوم صفين ما هو مشهور: خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعا” (الفتاوى : ج7)
وقال: “ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له حروراء ، فكفّ عنهم أمير المؤمنين وقال : لكم علينا أن لا نمنعكم حقكم من الفيء ولا نمنعكم المساجد ، إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم : فقتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على سرح المسلمين ؛ فعلم علي أنهم الطائفة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم” (الفتاوى : ج13) ..
وقال : “أول التفرق والابتداع في الإسلام بعد مقتل عثمان وافتراق المسلمين ؛ فلما اتفق علي ومعاوية على التحكيم أنكرت الخوارج وقالوا : لا حكم إلا لله ، وفارقوا جماعة المسلمين ، فأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نصفهم ، والآخرون أغاروا على ماشية الناس واستحلوا دماءهم ، فقتلوا ابن خباب وقالوا : كلنا قتله ، فقاتلهم علي” (الفتاوى : 13) ..
ليس كل من قاتل المسلمين يكون من الخوارج :
قال ابن تيمية: “كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة ، أو الباطنة المعلومة ، فإنه يجب قتالها ، فلو قالوا : نشهد ولا نصلي قوتلوا حتى يصلوا ، ولو قالوا : نصلي ولا نزكي قوتلوا حتى يزكوا ، ولو قالوا : نزكي ولا نصوم ولا نحج ، قوتلوا حتى يصوموا رمضان . ويحجوا البيت . ولو قالوا : نفعل هذا لكن لا ندع الربا ، ولا شرب الخمر ، ولا الفواحش ، ولا نجاهد في سبيل الله ، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى ، ونحو ذلك. قوتلوا حتى يفعلوا ذلك . كما قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} . وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}” . (الفتاوى : ج22) ..
وقال: “والربا آخر ما حرم الله ، وكان أهل الطائف قد أسلموا وصلّوا وجاهَدوا ، فبيّن الله أنهم إذا لم ينتهوا عن الربا ، كانوا ممن حارب الله ورسوله. وفي الصحيحين أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. وأني رسول الله. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها” (حديث متواتر) فقال أبو بكر : ألم يقل : إلا بحقها ؟ . والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعلمت أنه الحق. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال : “يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة” . فإذا كان الذين يقومون الليل ، ويصومون النهار ، ويقرؤون القرآن ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ؛ لأنهم فارقوا السنة والجماعة ، فكيف بالطوائف الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام ، وإنما يعملون بياساق ملوكهم ، وأمثال ذلك ، والله أعلم”. (الفتاوى : ج22) ..
(انتهى النقل عن الإمام ابن تيمية رحمه الله) ..
الأصول الجامعة للخوارج :
إن للخوارج علامات ودلالات تدل عليهم ، ولهم اجتهادات كثيرة متشعبة ، ولكن هناك أصول أجمع عليها الخوارج ، فقد جاء في “مختصر الفَرق بين الفِرق” للرسعني : “ذَكر الكعبي أن الذي يجمعهم [أي الخوارج] :
1- إكفار علي وعثمان والحكمين أصحاب الجمل وكل من رضي بتحكيم الحكمين ،
2- والإكفار بارتكاب الذنوب ،
3- ووجوب الخروج على الإمام الجائر ..
وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين : “جماع رأي الخوارج :
1- أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- إذ حكّم ، وهم مختلفون هل كفره : شرك أم لا ؟
2- وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر ، إلا النجدات فإنها لا تقول ذلك.
3- وأجمعوا على أن الله – سبحانه – يعذّب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً ، إلا النجدات أصحاب نجدة …
4- [وقال] : والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن .
5- [وقال] : والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر ، وينكرون إمامة عثمان رضوان الله عليهم في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها ، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكّم ، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم ، ويكفّرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري ، ويرون أن الإمامة في قريش وغيرهم إذا كان القائم بها مستحقاً لذلك ، ولا يرون إمامة الجائر . وحكى زرقان عن النجدات أنهم يقولون أنهم لا يحتاجون إلى إمام : وإنما عليهم أن يعلموا كتاب الله – سبحانه – فيما بينهم.
6- والخوارج لا يقولون بعذاب القبر ، ولا ترى أن أحداً يعذَّب في قبره”. (انتهى) ..
وقال ابن حجر في فتح الباري : “ومن أصولهم المتفق عليها بينهم : الأخذ بما دل عليه القرآن ، وردّ ما زاد عليه من الحديث مطلقاً” (انتهى) ..
وقال الشهرستاني : “ويجمعهم :
1- القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ، ويُقدّمون ذلك على كل طاعة ، ولا يُصححون المناكحات إلا على ذلك ،
2- ويُكفّرون أصحاب الكبائر ،
3- ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنّة : حقاً واجباً” . (الملل والنحل) ..
إنزال حكم الخوارج على جماعة بعينها :
فهذه الأحاديث التي في الخوارج والأصول التي اتفقوا عليها وأقوال أهل العلم فيهم ، فينبغي معرفتها قبل الحكم على جماعة بعينها ، فإذا لم نجد التطابق بين النقل والحكم فإن تنزيل الأحاديث على فرقة بعينها يعدّ من المجازفة والتقوّل على الله بغير علم ، ونخشى أن يدخل صاحبه تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم ووعيده في الحديث المتواتر : “من كذَب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” ، وأما من أخذ النصوص الحديثية وحاول إنزالها على بعض المجاهدين اليوم فهذا مجازف مخاطر بدينه في سبيل عصبية أو رأي مسبق لا يمت للقواعد العلمية بصلة ..
لا تكون الجماعة خارجية إلا إذا وافقت الخوارج أكثر اعتقادهم ، أما مجرّد الخروج على الحاكم أو قتال بعض المسلمين فهذا ليس دليلاً على الخارجية ، خاصة إذا كان الحاكم ظالماً ، فقد اختلف الصحابة والعلماء في جواز الخروج على الحاكم الظالم ، وخرج الكثير من الصحابة والتابعين على أئمة الجور ، قال ابن حزم – رحمه الله – في الفصل في المِلل : “وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك ، قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييأسون من الظفر ففرض عليهم ذلك ، وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة ، وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة ، وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي [قلت : لعله الحسين بن علي] وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين ، وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم : كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة بن شعبة وأبي المعد وحنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله بن الشخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم ، ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر ، ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله، وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم ، فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رآه منكرا” (انتهى) ..
أما الحاكم الكافر أو الذي طرأ عليه الكفر فلا خلاف في وجوب خلعه وإن بالقوة ، وقد جاء عن عليّ رضي الله عنه أنه قال في الخوارج “إن خالفوا إماماً عدلاً فقاتلوهم ، وإن خالفوا إماماً جائراً فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالاً” (الطبري بسند صحيح) ، ويروى عنه أنه قال “لا تقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه”.. أما قتال المسلمين فليس بخارجية على الإطلاق ، فقد يكون قتال بغي أو فتنة أو تأوّل أو جهل أو تغرير ، ولا يجوز وصم الفرقة أو الجماعة المقاتلة لبعض المسلمين بأنها جماعة خارجية لمجرد الإقتتال ، فالصحابة اقتتلوا فيما بينهم ، واقتتل المسلمون بعدهم ، والله تعالى قال في كتابه {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات : 9) ، فسمى الطائفتان مؤمنتان رغم الاقتتال ، وهذا لا يخفى على من له ادنى اطلاع على النصوص الشرعية وأقوال العلماء ..
الناظر في الأحاديث الواردة عن الخوارج يجد أن أكثر الروايات تتحدث عن العصابة التي تخرج في حال فرقة من الأمة ، أي خلال معركة صفّين ، يقاتلها أولى الطائفتين بالحق ، وقد قاتلها علي رضي الله عنه ، وأكثر الأوصاف – إن لم تكن كلها – جاءت في وصف هذه الفرقة من “المحكّمة” و”الحرورية” ، والأوصاف تنطبق بكاملها على الأزارقة والنجدات وأمثالهم ، فهؤلاء كانوا فعلاً : حدثاء أسنان ، سفهاء أحلام ، لم يُؤثر عنهم قتال الكفار ، بل كان جميع قتالهم ضد المسلمين ، قرأوا القرآن وجادلوا فيه خيار أهل الأرض في ذلك الوقت من الصحابة ، وكفّروا إمام المسلمين والخليفة الحق وخير من يمشي على الأرض : علياً بن أبي طالب – رضي الله عنه – وخرجوا عليه ، ثم خرجوا على من بعده من الأئمة ، وقتلوا المسلمين وتركوا أهل الذمة وأهل الكفر لم يمسوهم بسوء ، وأتعبوا الخلفاء ، وجاسوا خلال الديار قتلاً وسبياً وترويعاً وتخويفاً للمسلمين وشغلوا كبار قادة الفتوحات الإسلامية من أمثال المهلب بن أبي صفرة الكندي فحاربهم تسعة عشر سنة حتى كسر شوكتهم .. بهذه الصفات مجتمعة استحقوا أن يكونوا شر قتلى تحت أديم السماء ..
لقد نظرت في أكثر الأحاديث الواردة في الخوارج – الصحيحة منها والضعيفة – ولم أجد حديثاً يمكن لعالم عنده ذرّة خوف من الله أن ينزله على أهل الجهاد اليوم إنزالاً علمياً تبرأ به الذمة ، بل الذي رأيته أن أهل الجهاد أقرب إلى أحاديث الطائفة المنصورة من غيرهم من المسلمين اليوم : وذلك أن أكثر ألفاظ أحاديث الطائفة المنصورة جاءت بالقتال والظهور ، ولا أعرف عصابة اليوم تقاتل على الإسلام واستمرت في قتال أعداء الله لعقود غير هذه العصابة من المجاهدين ، فنسأل الله أن يكونوا منهم ..
وهذه جملة من أحاديث الطائفة المنصورة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لاتزالطائفةمن أمتيظاهرين ، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون” (البخاري) .. وعند مسلم : “لاتزالطائفةمن أمتي قائمة بأمر الله ،لايضرهم من خذلهم أو خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهمظاهرون على الناس” ، وعنده “لاتزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ، قاهرين لعدوهم ، لايضرهم من خالفهم حتىتأتيهم الساعة ، وهم على ذلك” ، وفي لفظ : ” لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة ” (مسلم) . وعنده “لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، فينزل عيسى بن مريم – صلى الله عليه وسلم – فيقول أميرهم : تعال صلِّ لنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء ، تكرمة الله هذه الأمة” ، وعند أبي داود عن عمران بن حصين ، قال : قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم ”لاتزالطائفةمن أمتييقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال”، قال النووي رحمه الله : ويحتمل أن هذه الطائفة متفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ، ومنهم فقهاء ، ومنهم محدّثون ، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر،ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين ، بل قد يكونون متفرقينفي أقطار الأرض” .(انتهى كلامه) ..
المتتبع لألفاظ حديث الطائفة المنصورة يجد أن أكثر الألفاظ تتمحور حول “القتال” و”الظهور” ، ولعل هذا هو سر تقديم الإمام النووي رحمه الله “شجعان المقاتلين” على غيرهم من الأصناف التي ذكرها من الطوائف .. وهذه بعض الألفاظ الأخرى : “يقاتلون على الحق ظاهرين” ، “ظاهرين على الحق” ، و”على الدين ظاهرين ولعدوهم قاهرين” ، و”يقاتلون على الإسلام ظاهرين” ، و”يقاتلون من ناوأهم من أهل الشرك” ، و”قائمة على أمر الله” ، و”قوّامة على أمر الله” ، و”لا يضرهم خلاف من خالفهم” ، و”يقاتلون على أكناف بيت المقدس” ، و”قائمة بالحق يقاتلون من قاتلهم” ، و”قائمة على أمر الله ظاهرة” ، و”ظاهرين على من ناوأهم” ، ومنصورين لا يضرهم من خذلهم” ، و”يقذف الله بهم كل مقذف ، يقاتلون فضول الضلالة” ، و”على الحق منصورة” ، إلى غيرها من الألفاط التي تدل على استمرار الجهاد حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال ، وحتى ينزل المسيح بن مريم عليه السلام في آخر هذه الطائفة المنصورة الظاهرة المقاتلة المجاهدة التي تجد لها مخالفين ومناوئين في كل زمان ..
لننظر إلى الواقع : كثير من الجماعات الإسلامية المجاهدة وُصمت بالخارجية ، فهذا محمد بن عبد الوهاب وسم بالخارجية لخروجه على الخلافة العثمانية ولتكفيره بعض طوائف المسلمين ، وجميع أئمة الدعوة النجدية في عهده وبعده وسموا بالخارجية ، ومن قبلهم ابن تيمية وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين الذين لم يرضوا بتأويلات أهل الأهواء والمبتدعة ، خاصة المرجئة الذين أطلقوا هذا اللقب على من أدخل العمل في تعريف الإيمان ، ولا زال هؤلاء يرمون الناس بالخارجية دفاعاً عن الطواغيت المحكّمين لغير شرع الله ..
قيل عن المجاهدين في أفغانستان بأنهم خوارج مِن قبل مرتزقة السلطان في الجهاد الأفغاني الأول ، وقد خرجت فتاوى من بعض علماء الأزهر قديماً وحديثاً تصنّف جماعة الإخوان بالخارجية ، ويقال ذلك عن حركة حماس في فلسطين التي خرجت على “فتح” ، وقاعدة الجهاد في أفغانستان ثم العراق ، والدولة الإسلامية ، وقد كان الشيخ أسامة – رحمه الله – رأس الخوارج في الأرض عند المرجئة والحكام ، ثم من بعده “أبي مصعب الزرقاوي” –رحمه الله – والشيخ الظواهري ، والشيخ “عمر عبد الرحمن” فك الله أسره ، والشيخ “سيد قطب” – رحمه الله – وكل من أنكر على طواغيت عصرنا وجاهر بالإنكار : وُسم الخارجية !!
كم من حكومة لجأت لهذا الأسلوب في محاربة أعدائها ومخالفيها السياسيين ، والحقيقة أن وسم الجماعات الإسلامية بالخارجية لا يختلف كثيراً عن وسمها بالإرهاب : فحماس إرهابية ، وجماعة الإخوان إرهابية ، وقاعدة الجهاد بجميع أفرعها إرهابية ، وأهل السنة في العراق والشام إرهابيون لأنهم لم يرضوا بقتل النصيرية والروافض لهم ، وأهل مصر إرهابيون لأنهم لم يرضوا أن يقتلهم السيسي ويحكمهم العسكر ، والمسلمون في ليبيا إرهابيون لأنهم لم يستسلموا لللمؤامرات بقيادة حفتر ، فكل جماعة إسلامية اليوم تحارب الكفر والإحتلال والأنظمة الكافرة العميلة الجائرة ، أو تحارب مصالح الدول الكافرة ولا ترضى أن يحتلها الكفار وأن يقتلوا رجالها ويسبوا نسائها : فهي إرهابية خارجية ..
إن مسألة الإتهام بالإرهاب ليست من إبداع عقول الكفار في هذا العصر كما يعتقد البعض ، بل هي قديمة قدم التاريخ الإنساني ، فهذا كبيرهم الذي علمهم الطغيان يقول : {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر : 26) والفساد كلمة مرادفة للإرهاب ، فالإرهاب هو “الإسلام” في نظر الغرب كما أن الفساد عند فرعون “أن يُعمل بطاعة الله” (انظر تفسير ابن كثير) ..
أما عقلية عبيد الطغاة وعلماء السلطان وأتباعهم فلا جديد ، فهي عقلية بالية لها سلف في التاريخ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (غافر : 25) ، فالظالم إذا رأى الحق وعلم أنه لا يستطيع رده بالحجة ، وكانت له قوة : لجأ إلى القتل ، وهذه دعوة “علي النتن” في خطبته أمام العسكر ، ودعوة الإعلام المصري ، ودعوة السيسي في “التفويض” ، ودعوة علماء السلطان في إقامة “حد الحرابة” على المجاهدين ، فكل من دعى إلى أن “يُعمل بطاعة الله ويُحكم بشرع الله” فهو مُفسد إرهابي خارجي عند هؤلاء : يجب قتاله وقتله ..
هل المجاهدين اليوم خوارج ؟
لعل آخر جماعة وُصمت بالإرهاب والخارجية هي جماعة “الدولة الإسلامية” ، وقد كثر الكلام على هذه الجماعة من قبل الإعلام العربي والعالمي وفي الشبكة العالمية ومواقع وبرامج التواصل الإجتماعي ، ورأينا أطناناً من الأكاذيب تُرمى يومياً في سلّة الإعلام المرئي والمقروء والمسموع .. ومع اجتماع الإعلام الرسمي على شيطنة هذه الجماعة إلا أن الناس اختلفوا فيها بين مؤيد ومعارض ومتوقّف ، فما حقيقة كثير مما يقال عن الجماعة ؟
مما لا شك فيه أنها ليست جماعة خارجية لأنها لم تخرج على الخليفة الراشد عليّ رضي الله عنه في قول من قال بذلك ، ولم تقاتل إماماً مسلماً حقاً كما هو قول بعض العلماء ، ولا تؤمن بأصول الخوارج المتفق عليها بينهم ، فتسميتها بالخارجية كدعوى النصرانية لمن لا يؤمن بعيسى عليه السلام ، أو إسلام من لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلا بد من الإيمان بأصول الفرقة أو الجماعة لينتمي إليها الإنسان ، وهذا أمر بدهي لا يختلف عليه العقلاء .. ولا يجوز وصفها بالخارجية لأنه ظهر للبعض أنها وافقت الخوارج في بعض الأمور ، فهذا ليس من التصنيف العلمي ، فالنصارى يُعظّمون عيسى ، واليهود يُعظّمون موسى ، فهل المسلم الذي يعظمهما يكون يهودياً أو نصرانيا !!
النصوص التي جاءت في الخوارج تصدّق بعضها بعض ، وتشرح بعضها بعض ، وتعضد بعضها بعض ، ولقد رأينا ليّاً لأعناق النصوص في محاولة مستميتة لإنزالها على “الدولة الإسلامية” اليوم ما كنا نراه في شأن “قاعدة الجهاد” قبل سنوات ، فهي نفس المحاولات اليائسة البائسة من أناس جهلوا خطورة عملهم ، ولم يراعوا حرمة حديث نبيّهم صلى الله عليه سلم ، ولو نقلنا مقالاتنا التي كانت للدفاع عن قاعدة الجهاد كما هي بطريقة القص واللصق لم نحتج إلا إلى تغيير الأسماء لإنزال هذه المقالات على الدولة الإسلامية اليوم لنفي هذه التهم ..
إن من أظهر صفات الخوارج التي جاءت في الأحاديث النبوية : “التحليق” ، و”حداثة الأسنان وسفاهة الأحلام” ، و”قتل أهل الإسلام وترك قتال أهل الأوثان” ، و”يحسنون القيل ويسيؤون الفعل” ، و”يقرأون القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم” ، و”أشداء أحدّاء” ، و”يحقر الصحابي صلاته إلى صلاتهم” .. فإذا اجتمعت هذه الصفات – وغيرها من صفات الخوارج وأصولهم – في جماعة بعينها لزم من ذلك كونهم : “شر قتلى تحت أديم السماء” ، و”خير قتلى من قَتلوهم” ، وكونهم من “أبغض خلق الله إليه” ، و”في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة” ، فهل يستطيع من عنده ذرّة تقوى وخوف من الله أن يحكم على جماعة بعينها بالخارجية فيكون لازم قوله ما جاء في الأحاديث النبوية !!
الحقيقة أن أكثر هذه الصفات – وأشد منها – نجدها واضحة جليّة في الجيوش العربية : فهم حليقوا الرؤوس ، وحدثاء أسنان بلا أحلام ، يقتلون أهل الإيمان ويتركون أهل الأوثان ، وأشداء أحداء مع المسلمين ، يحسنون القيل ويسيؤون الفعل ، والخوارج أفضل منهم في كونهم أهل صدق وعبادة وإخلاص ، أما هذه الجيوش فالغالب عليهم الغدر والخيانة والفجور ، أليس هذا ما رأيناه في ليبيا ومصر وسوريا والعراق وغيرها من البلاد ، فهل هذه الجيوش خارجية !! هل رأينا جيشاً عربياً يقاتل الكفار في زماننا هذا !! الخوارج يتركون الكفار ، ولكن هؤلاء يوالون الكفار ويقاتلون المسلمين في صفوفهم في أفغانستان وغيرها ، ويحاصرون المسلمين في غزة لصالح اليهود ويتولون المرتدين (العلمانيين) ضد المسلمين في بلاد العرب وغيرها ، فمن أولى بوصف الخارجية ؟ بل أشد من الخارجية !!
الذي نراه ويراه العالم كله بالصوت والصورة : أن “الدولة الإسلامية” تقاتل النصارى الأمريكان والفرنسيين والبريطانيين ، وتقاتل الرافضة الفرس والعرب ، وتقاتل النصيرية والعلمانيين من الأكراد وغيرهم ، وهؤلاء أعداء للإسلام والمسلمين ، وفعلهم هذا يخالف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الخوارج ، فلا يستقيم قول النبي صلى الله عليه وسلم “يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان” ووصف الدولة بالخارجية ، إلا أن نؤمن ببعض كلام النبي ونكفر ببعض ، هذا إذا سلّمنا للبعض بأن الدولة يقتلون أهل الإسلام كما كانت تفعل الخوارج ..
الدولة عندها علماء ترجع إليهم وتستفيتهم ، وهي ترجع إلى أقوال أهل العلم من السلف والخلف كما رأينا في إصداراتهم ، وهذا لم يكن في الخوارج ، وجنود الدولة ليسوا حليقي الرؤوس ، وهذه صفة بارزة في الخوارج ، والدولة لا تفسّر القرآن وفق هواها بل ترجع إلى كتب التفسير المعتبرة ، والدولة لم تخرج على إمام حق – وأين هو في زماننا هذا – بل خرجت على الرافضة والنصيرية في العراق والشام ، والدولة لا يُؤمن جنودها بأصول الخوارج : من تكفير مرتكب الكبيرة ، وتكفير علي ومعاوية وعمرو بن العاص وأهل التحكيم وأهل صفّين ، ولا تقول بخلق القرآن ، ولا تنفي السنّة الصحيحة ، ولا تنكر الشفاعة ، ولا تعطّل الصفات ، ولا تقول بتعذيب أهل الكبائر تعذيباً دائماً في الآخرة ، ولا تقول بعدم حجّيّة خبر الآحاد ، ولا تقول بجواز الإمامة العظمى في غير قريش ، ولم تقل بوجوب الخروج على الإمام الجائر ، بل قالت بوجب الخروج على الحاكم الكافر – المُشرّع بغير شرع الله ، الموالي لأعداء الله – وهذا هو مذهب أهل السنة ، ولا تُنكر الشفاعة لأهل الكبائر ، ولا تُنكر عذاب القبر ، ولم تكفّر عموم المسلمين كما يدّعي البعض ، بل تكفّر قلّة قليلة من أعيانهم لاجتهادات قد نوافقهم أو نخالفهم عليها ، وجنود الدولة يُصلّون خلف المسلمين من غير جماعتهم ، ويعاملون عوام المسلمين من غير جماعتهم معاملة حسنة ، فبأي شيء يصيرون خوارج وهم لا يتّفقون مع الخوارج في الأصول المتفق عليها بينهم ولا في الفروع ولا في الوصف ..
إن القول بأن “الدولة الإسلامية” خارجية ، ووصف جنودها بأنهم “كلاب أهل النار” مجازفة كبيرة لا يأمن صاحبها أن يكون ممن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم “متعمداً” أن زعم بأن أمثال هؤلاء هم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه ، فإنزال النصوص على واقعنا يحتاج إلى علم بهذه النصوص ، ويحتاج إلى علم بطريقة الجمع بينها بشكل علمي ، ويحتاج إلى معرفة الواقع معرفة حقيقية ، ويحتاج إلى تجرّد للحق ، وقد تتبعت من أنزل هذه الأحاديث على “الدولة” فوجدت أكثرهم ليسوا من أهل العلم ، ومن كان منهم من أهل العلم : إما أن يكونوا من علماء السلطان ، وهم الغالبية ، وإما أنهم لم يجمعوا بين النصوص ، ومن جمع منهم لم يعرف حال “الدولة الإسلامية” معرفة حقيقية لأنه يسمع من طرف واحد ، وإن وُجد من عرف فإنه لا يحكم بتجرّد ، وإنما الحكم في الغالب سياسي أو حزبي وليس شرعي ، أو يكون الحكم من باب العداء أو عدم الرضى ، وعين السخط تُبدي المساويا ..
هناك أثر يتناقله البعض من كتاب “الفتن” للحافظ نُعيم بن حمّاد ، قال : “حدثنا الوليد ، ورشدين ، عن ابن لهيعة ، عن أبي قبيل ، عن أبي رومان ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : “إذا رأيتم الرايات السود فالزموا الأرض فلا تحركوا أيديكم ولا أرجلكم ، ثم يظهر قوم ضعفاء لا يؤبه لهم ، قلوبهم كزبر الحديد ، هم أصحاب الدولة ، لا يفون بعهد ولا ميثاق ، يدعون إلى الحق وليسوا من أهله ، أسماؤهم الكنى ، ونسبتهم القرى ، وشعورهم مرخاة كشعور النساء ، حتى يختلفوا فيما بينهم ، ثم يؤتي الله الحق من يشاء” (انتهى) ..
هذا الأثر فيه ابن لهيعة ورشدين : وكلاهما ضعيف ، وفيه عنعنة الوليد وهو مدلّس ، فالأثر إسناده ضعيف جداً ولا يثبت بأي حال ، فلا يجوز نقل مثل هذا للناس على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يشفع لصاحبه أنه نقله من كتاب ، خاصة كتاب مثل “الفتن” لنعيم بن حماد ، ففيه الكثير من الآثار الضعيفة والموضوعة وروايات أهل الكتاب والمجاهيل ، قال الإمام الذهبي رحمه الله عن هذا الكتاب “وقد صنّف كتاب الفتن ، وأتى فيه بعجائب ومناكير” (السّير : ج10) .. ينبغي التثبّت ، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره ، وإنزال مثل هذا الكلام على المجاهدين يزيد الأمر سوء ، فالواجب على العلماء بيان حال مثل هذا الكلام حتى لا يغتر العوام ويتخذوه دينا ..
الخلاصة :
هذه الخلاصة عبارة عن أهم النقاط التي جاءت في البحث ، وجلها مذكور أعلاه ، وهي نتاج تتبع واستقراء الأحاديث النبوية وأقوال أهل العلم ، مع بعض الوصايا المُستنبطة من دراسة هذه الأحاديث والأقوال ، أسأل الله أن ينفع بها :
1- الخوارج فرقة مارقة ظهرت بوادرها في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – على يد ذو الخويصرة التميمي ..
2- أول ظهور هذه الفرقة كجماعة كان اثناء معركة صفّين ، فقد عارضوا التحكيم وهتفوا “لا حكم إلا لله” ، فسموا “المحكّمة”، ثم خرجوا على عليّ رضي الله عنه فسمّوا “خوارج” ..
3- قال البعض بأن أول خروجهم كان على عثمان رضي الله عنه ، وأهل التاريخ يسمون الخارجين على عثمان “الثوار” ، ويفرّقون بينهم وبين من خرج على عليّ رضي الله عنه ..
4- انحاز الخوارج إلى حروراء فقيل “الحرورية” ، وقاتلهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب بعد أن سفكوا الدم الحرام ، ولم يكفّرفهم رغم تكفيرهم له ، وعاملهم معاملة البغاة ..
5- الخوارج فرق كثيرة : أكثرها غلواً الأزارقة والنجدات ، وقد انقرضوا ولله الحمد ، وأقلها تطرفاً الإباضية ، وهي باقية في عمان والمغرب الاسلامي ، وهم ينفون عن أنفسهم صفة الخارجية ..
6- للخوارج اجتهادات كثيرة خالفوا بها المسلمين ، ومما أجمعوا عليه : تكفير علي وعثمان ومعاوية ، وتكفير مرتكب الكبيرة ، ووجوب الخروج على الحاكم الظالم بالسيف ، والقول بخلق القرآن ، وإنكار السنة المخالفة لظاهر القران بفهمهم السقيم …
7- اختلف العلماء في من هم الخوارج : هل هم الذين خرجوا على علي فقط ، أم هم كل من يخرج على الإمام الحق في كل زمان ، أم هم من يؤمن بأصول الخوارج ..
8- قال ابن تيمية بأن الخوارج أفضل من الرافضة والنصيرية والجهمية ، وأن النصيرية والإسماعيلية أولى بالقتال من الخوارج ..
9- اختلف العلماء في الحكم على الخوارج : فكفّرهم البعض ، والجمهور على أنهم فسّاق بغاة وليسوا كفارا ..
10- لا يجوز إنزال أحاديث الخوارج على جماعة بعينها إلا عن علم بالحكم والحال ، لأن هذا حكم شرعي له ضوابط ولوازم ..
11- ليس كل من كانت فيه صفة أو عمل عملاً اشتهر عن الخوارج يكون خارجياً ..
12- ليس كل من قاتل المسلمين يكون خارجياً ، فقتال المسلمين يكون عن تأويل ، ويكون فتنة ، ويكون لدنيا ، ويكون بغياً ، وغيرها من الأسباب ..
13- لا ينبغي للمسلم التسرّع والإجتراء على تكفير المسلمين ، فالتحذير من هذا والوعيد عليه شديد في السنة ..
14- لا يجوز للمسلم الفرح بمصاب المسلمين ، ولا يجوز للمسلم الفرح بقتله مسلماً ، فإن الله لا يقبل عمل من يفرح بقتل مسلم ، وأعظم من هذا من سرّه ظهور الكفار على المسلمين ، فهذه ردّة عن الدين ..
15- ينبغي للمسلم الإبتعاد والنأي بنفسه عن خصال الخوارج : من استباحة وسفكٍ لدماء المسلمين ، والإغترار بالعبادة والطاعة ، والجرأة على تكفير المسلمين ، والتكبّر على الآخرين ، والإعتداد بالنفس ، والبعد عن مشاورة العلماء ، والاجتهاد بغير آلة ..
16- لا يكفي إخلاص المرء في العمل حتى يكون معه العلم والإتباع ، فالخوارج يقرؤون القرآن ويقولون من قول خير البرية مخلصة قلوبهم ، ولكنهم جهلوا المعاني فكانوا من شرار الخلق رغم اخلاصهم وتفانيهم في سبيل عقيدتهم ..
17- من جاهد المسلمين بنفسه أو ماله أو لسانه وترك مجاهدة الكفار بنفسه أو ماله أو لسانه : فهو أقرب إلى الخوارج من غيره ، ومن رام الجمع بين الأمرين فهو جاهل ضال ..
18- ليس كل من خرج على حاكم يكون خارجياً ، فكثير من الصحابة والتابعين خرجوا على أئمة الجور .. الخارجية هي : الخروج على الإمام الحق العادل بالسيف .. ومن لم يحكم بما أنزل الله أو والى أعداء الله فهو كافر ظالم فاسق يجب الخروج عليه ..
19- الأقرب إلى الخارجية : حكام وجيوش الدول العربية التي تقاتل المسلمين وتترك الكفار وتدافع عنهم وتحرسهم وتحرس قواعدهم العسكرية في البلاد الإسلامية ليقتلوا منها المسلمين ، وهي جيوش حليقة ، أفرادها من حدثاء الأسنان يغلب عليهم الجهل بالدين ، وكثير منهم لا يقرأ القرآن أصلاً ، وكثير منهم يجاهر بالمعصية ، بل بالكفر ، ومع هذا كله فإننا لا نقول بأنهم المقصودون بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج ..
20- مما ندين الله به – بعد تتبع النصوص ومعرفة الواقع قدر المستطاع – أن المجاهدين في هذا الزمان أقرب إلى الطائفة المنصورة من أكثر المسلمين ، ولا يجوز لأحد وصفهم بالخوارج ، ويُخشى أن يكون هذا من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بادعاء أن قصده من كلامه أمثال هؤلاء ..
إن سبب هذا البحث هو : التحذير من فتنة التصنيف بغير علم ، فهو موجّه للشباب ولطلبة العلم الصغار الذين يسارعون في إنزال النصوص في غير موضعها ، وهو تذكير للعلماء بتقوى الله عز وجل ، وأن الله يحاسبهم على كل كلمة يقولونها أو يكتبونها في شأن المسلمين عامة ، والمجاهدين خاصة ، فهؤلاء أقرب الناس لأن يكونوا أولياءه ، وقد آذن الله تعالى من يعادي أولياءه بالحرب ، فليتّق اللهَ من يرمي المجاهدين بما ليس فيهم ، ولا ينفع البعض مداهنة هؤلاء الحكام لتثبيت دنياهم بإضاعة دينه ..
كما أن هذا البحث لبيان حقيقة الخوارج والتحذير من سقوط بعض الشباب في مستنقع الغلو في التكفير ، والتشدد في معاملة المسلمين مع التساهل في إراقة دمائهم ، فهذا كله من صفات الخوارج الذين حذّرنا النبي صلى الله عليه وسلم منهم ومن جهلهم وقلة فهمهم ، فعلى الشباب الرجوع إلى العلماء الربانيين في المسائل الشائكة ، ولا ينبغي الخوض في المسائل العظيمة – كالتكفير واستحلال الدماء – إلا لمن ملك آلة الإجتهاد أو سأل العلماء الربانيين ونقل عنهم كلامهم ، وليس سؤال العلماء دليل قلة علم – كما يوسوس الشيطان للبعض – وإنما هو دليل كمال العقل والطاعة لله تعالى في قوله سبحانه {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل : 43) ، وقوله جل وعلا {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء : 83) ، ودليل خوف وحذر من عاقبة الجرأة على الله {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (الإسراء : 36) ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
17 شوال 1435ه
___________
To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]