عندما جِيء بي من سجني الذي عُزلت فيه في الشمال، ونُقلت إلى سجن في الجنوب حيث يوجد جميع الإخوة، فيختلط فيه الكبير مع الصغير، والعاقل مع الجاهل، لم تمضِ أيام حتى اشتعلت معركة من المعارك التي يزج الجميع بها في الغالب، ويورطه فيها بعضُ الصغار أو الجهال أو المتحمسين، وجاء مدير الأمن الوقائي محفوفا بالضباط والشرط في اللحظات الأخيرة قبيل الصدام، والقوم محيطون بنا من كل منفذ ونافذة، مدجّجون بالهراوات والغاز، فوجه كلامه لي قائلا: «يا شيخ أنت رجل عاقل وجئت هنا قبل أيام، ولا دخل لك بهذه المشكلة، فتعال اخرج من هنا حتى لا يلحقك ما سيلحقهم!»
فكان جوابي: «لا، لن أخرج، بل حالي حال إخواني.»
وبدأ الضرب والغاز أعقبه عقوبة الزناين الانفرادية للجميع، وذهبت عبارتي:(حالي حال إخواني) مَثلا في السجن بين الشباب في كثير من المواقف جدا وهزلا!
ومثل هذه المعارك التي تُجرّ إليها بدون اختيارك كونك في السفينة نفسها، ومن دون أن تخطط أنت لها، بل ومن دون أن تقتنع بأسبابها أحيانا، لكن المروءة والنخوة والأخوة تمنعك من اختيار موقف المتفرج عليها؛ فهي عادة ليست معاركك التي تختار توقيتها، وليست أسبابها ولا نتائجها وأهدافها هو ما تسعى إليه وتتمناه! لكنك في ظروف معينة، ستجد نفسك مدفوعا إليها مزجوجا بك فيها، وقد تُكلفك الكثير انجرارا وتورّطا وليس قناعة!
ولكنّ بركة الوقوف مع إخوانك إيثارا لوحدة الصف وعدم تشتيته في النوازل وأوقات المحن أحيانا تأتي بالخير، ويجعل الله فيها خيرا بأقداره وألطاف؛ ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.
فموسى ﷺ تورّط في معركة جانبية زجّ به فيها شاب (غويّ مبين) من قومه لم يقدر على خذلانه، كلفته عشرة سنين من المطاردة والغربة والفراق لأهله، ولكن بركة هذه الغربة لم تكن الزواج من صالحة طيبة ابنة صالح وحسب، بل كان ختامها النبوة والقرب والتكليم! وهذا ما يعزي الإنسان نفسه به حين يتورط في حرب لا يعرف لماذا انطلقت!
فمن أطلقها نقض هدنة عقدها برعاية المخابرات العربية، وكان يعاقبك لو نقضتها أنت بمصادرة سلاحك وسجنك وتفكيك جماعتك! ولا تعرف أهدافه الحقيقية ودوافعه لأنك لا تثق بمن أطلقها؛ فهو يتبنى نهجا إخوانيا إسلامقراطيا، ويحكم بالقوانين الوضعية ولا يقاتل لإقامة شرع الله! ثم أنت لا تعرف مآلاتها ولا كيف ومتى ستتوقف وعلى ماذا سترسو لأنك أصلا لست طرفا في توجيهها، ولا حتى لك أدنى مشاركة أو اعتبار في قراراتها المصيرية! فقد تضع كل إمكاناتك وثقلك وتشجع إخوانك لها ثم يفجؤك المشعلون لها بإطفائها وتوقيفها حين يشاء الداعم أو الرئيس دون مشورتك ولا حتى إخبارك!
والقائمون الرئيسيون عليها يخالفونك في أصولك وليس في الفروع! ولا يلتقون معك لا في المسار ولا الأساليب ولا الأهداف، بل إنّ الروافض سبّابي أصحاب نبينا ﷺ وأزواجه الطاهرات، وقاتلي إخوانك في الشام والعراق واليمن وغيرها أقرب للقائمين عليها منك، وتأثيرهم عليهم أقوى وأظهر! لذلك فحماسك وكلامك وبياناتك عنهم وكأنك ناطق باسمهم تُعتبر نياحة مستعارة، وتطبيلك لهم دون تحفّظ على منهجهم هو في الحقيقة خليط من الحماقة والسذاجة والسفه، سواء كنتَ وطنيا وضابطا متقاعدا كالدويري الذي صار يُحلل ويتكلم كأنه ناطق باسم المقاومة، أو جهاديا كالقاعدة التي أمست تستعير في إصداراتها إصدارات مقاتلي حماس لتتكلم مِن خلالها عن الجهاد العالمي الذي تتبرأ منه حماس المقاومة بل وتعده إرهابا! أو تُحرض مِن خلال مقاطع مقاتلي القسام على طواغيت وأنظمة تواليهم أصلا حماس! أو تعتمد عليهم وتستمد منهم وتُمجد قتلاهم وتعدهم شهداء القدس! وما دمت في الصيف قد ضيعت اللبن ولم تعدّ العدة لهذا اليوم برجال وإمكانات وبنك أهداف موجعة؛ فلا تركب موجة ليست لك، ولا تُطبل وترقص لأغاني لا تناسبك، وإن كنت مشاركا ولابد فشارك مشاركة المتورّط في معركة لا يملك خطامها ولا زمامها، لكنه يرى فيها مصلحة للمسلمين، ويستشرف منها صحوة للأمة وإشعالا لجذوة الجهاد فيها، بألطاف الله وأقداره، لا بأهواء الذين لا يعلمون.
✍الشيخ: أبو محمد المقدسيّ -حفظه الله-
________________
To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]