بسم الله الرحمن الرحيم
يُقال بأن الذبابة من أسرع المخلوقات نسياناً لقصر ذاكرتها ، فإذا حطّت على موضع وأُبعدت عنه بما يشكل خطراً على حياتها فإنها لا تلبث أن ترجع إلى نفس الموضع لنسيانها الأمر في ذات لحظات الهروب !!
كثير من الناس عندهم هذه المشكلة ، وهذه الأحداث أظهرت الكثير من العجائب التي تُخجل الذبابة في ذاكرتها ، وهذه بعض أمثلة واقعية لهذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية :
قبل أيام تدخلت روسيا بطائراتها في سوريا فضج الناس وأنكروا وأرعدوا وأزبدوا وقالوا وصرّحوا وبيّنوا ، ونسي هؤلاء بأن الروس كانوا ولا زالوا يشاركون في هذه الحرب بطائراتهم المتواجدة على الأرض السورية وفي القواعد الروسية الساحلية وبقيادات من الجيش الروسي ، فليس في الأمر أي تغيّر سوى الإعلان الرسمي !!
لما تدخّلت روسيا رسمياً وضربت – أول ما ضربت – قاعدة للجيش الحر ، قامت قيامة خبراءنا وعباقرة محللينا ليعلنوا للملأ بأن “الروس” يضربون المقاومة المعتدلة ويتركون “الدولة الإسلامية” ، إذاً الدولة الإسلامية عميلة !! رغم أن الروس أعلنوا بأن كل مناهض لبشار هو إرهابي ، إلا أن هؤلاء العباقرة يصرون على أن “الدولة الإسلامية” عميلة لأن الروس لم يبدؤوا بقصفها ، وعبثاً تحاول فهم هذه المعضلة ، فالعباقرة لم يعلنوا لنا من هي الجهة التي الدولة لها عميلة لعدم استفتاح الروس بضربها : فبشار يقصفها ، وإيران تقصفها ، ودول التحالف تقصفها ، فهل “الدولة الإسلامية” عميلة للروس هذه المرّة لأنها لم تبدأ بقصفها !! هل نسي هؤلاء العباقرة أنهم قالوا نفس الكلام قبل أن يقصف بشار الدولة الإسلامية ، وقبل أن يقصفها المالكي وإيران وأمريكا ودول التحالف العربي الرافضي الصليبي اليهودي !!
ها هم الروس يقصفون الدولة الإسلامية في الرقة يا من أنكرتم عدم قصفها ، فلتطمئن نفوسكم ، ولتريحوا بالكم ، فإخوانكم المسلمون في الدولة الإسلامية قُصفوا ، فأقيموا الحفلات ، ووزعوا الحلوى والمكسرات ، فأطفال الرقّة صاروا أشلاء وسالت الدماء .. هنيئاً لكم هذه العقول المغيّبة ، وهذه القلوب الممتلئة حقداً وكراهية وبغضاً لإخوانكم المسلمين الذين تتمنون أن يقصفهم النصارى الصليبيون ، هذا هو الإسلام ، وهذه هي عقيدة الولاء والبراء الصافية النقية ، وهذا هو الحب والبغض في الله يا من عُدم أوثق عرى الإيمان !!
مسألة العمالة هذه مسألة عجيبة ، فمنذ قيام الدولة الإسلامية ، بل منذ قيام الجهاد قبل أربعين سنة في أفغانستان والمجاهدون عملاء للاستخبارات الباكستانية ، ثم للأمريكان ، ثم للروس ، ثم لإيران ، ثم لرافضة العراق ، ثم للبعث ، ثم للنصيرية ، والبعض يُطلق فيقول : جهات أجنبية ، وفي كل الجبهات : جاء المجاهدون لإفساد الحراك الشعبي السلمي الديمقراطي الوسطي الإسلامي .. كانوا في أفغانستان متنطعون لا يتّفقون مع المقاومة المعتدلة المدعومة أمريكياً ، وفي الصومال أساؤوا إلى المقاومة المعتدلة المدعومة أثيوبياً ، وفي العراق أساؤوا إلى المقاومة الشعبية المدعومة عربياً ، وكذا مقاومة ليبيا المدعومة أوروبياً وعربياً ، واليمن المدعومة عربياً ، والشيشان المدعومة روسياً ، ومقاومة عباس المدعوم يهودياً !! ها هم الغلاة المتنطعون يسيؤون إلى المقاومة المعتدلة في سوريا والمدعومة أمريكيا وعربياً ، لا ندري كيف نسي هؤلاء تقارير مراكز الدراسات الغربية في تعريف الاعتدال ، بعضهم نسي بأنه يتكلم من بلاد حكامها قتلوا آلاف المسلمين في رابعة ، ودفعوا المليارات لابن اليهودية السيسي ، ومثلها لحفتر والمالكي والعبادي وحكومة لبنان النصرانية الرافضية وأمريكا لقتل المسلمين في العراق والشام وليبيا ، ولاة أمرهم ليسوا عملاء وهم يعلنون عمالتهم على الملأ ، أما من يقاتل أرباب ولاة أمرهم من الصليبيين فهؤلاء هم العملاء !! الذي يقتل العدو ويقطع رؤوس جنوده وجنرالاته هو العميل ، والذي يُعلن ولاءه للأعداء ويدفع لهم الأموال ويظاهرهم على المسلمين ويواليهم فهو الصادق الأمين وليّ أمر المسلمين !!
بعد كل ما فعله هؤلاء الحكام في الأمة : من تسليم فلسطين لليهود ، وتدمير مقدرات الأمة ، وملاحقة علماءها في شتى المجالات وتشريدهم وقتلهم ، والحرص على تخلف الشعوب والدول ، ومحاربة المصلحين وقتلهم والاستعانة بالأعداء عليهم ، وتسليم ثروات البلاد للأعداء ، ونشر الرذيلة وزرع الفتنة والتفريق بين المسلمين على أساس القوميات والأوطان ، وآخر الأمر ما كان في “الربيع العربي” من محاربة الشعوب وقتلها وتهجيرها والإعانة عليها ، رغم كل هذا لا زال البعض يطالب هذه الحكومات بالوقوف في وجه أعداء الأمة !! هم يقولون : نحن مع الأمريكان ، نحن مع الروس ، نحن مع السلم الدائم مع اليهود ، نحن ضد الإرهاب ، بل بعضهم يصرح بأنه ضد الإسلام والفكر الإسلامي والصحوة الإسلامية ، رغم كل هذا يأتي أصحاب ذاكرة الذبابة ليأمّلوا خيراً في هؤلاء !! البعض تجرأ واقترح على الدول العربية – بعد التدخل الروسي المعلن – تزويد الثورة السورية بمضادات الطائرات من غير موافقة أمريكا !! هكذا دون خجل !! نسي هؤلاء بأن طائرات هؤلاء الحكام هي التي تحوم فوق رؤوس المسلمين في سوريا وتقتلهم بالتنسيق مع الطيران الروسي والأمريكي والإيراني والأوروبي والصهيوني والنصيري !!
بعض الثوار في سوريا يظن أنه يأخذ “مساعدات” من هذه الدول لمحاربة بشار دون تنازلات !! ذاكرة الذبابة لم تُسعف هؤلاء !! هل هناك سابقة واحدة لمساعدات عربية أو غربية للمسلمين دون تنازلات !! إنهم لا يعطونك درهماً إلا ويأخذوا من دينك ديناراً ، ولا يُعطونك رصاصة إلا وانحرفت عن مسارها – دون أن تشعر – لتستقر في صدر الأمة .. أمريكا اشترطت على عبيدها “المعتدلين” محاربة الدولة الإسلامية حصراً ، وهؤلاء اشترطوا عليهم محاربة الدولة الإسلامية وقاعدة الجهاد مع حربهم لبشار تقيّة ، هؤلاء الخبثاء يعلمون بأن هذه “المساعدات” أشبه ما تكون بالمخدرات التي يعتمد عليها متعاطيها حتى يُدمنها ، وعندها يأخذون منه ما يريدون دون تردد منه ، وكم متعاطٍ للمخدرات باع عرضه وشرفه ودينه من أجل جرعة ..
هم أعطوا بشار ملايين الدولارات علانية ليشتري الأسلحة ، ثم أعطوا الحكومة اللبنانية ملايين الدولارات لتصل إلى بشار على طريقة “أين أذنك يا جحا” .. هم من يدعم الروافض في العراق بمئات الملايين من الدولارات علانية ، وهم من يدعم السيسي وحفتر ، وهم من دعم علي صالح والحوثيين ، هم الذين أشاروا على الأمريكان بمنع مضادات الصواريخ عن الثوار في سوريا حتى يُفني بشار المقاومة ، وهم الذين يقصفون المسلمين في سوريا والعراق بطائراتهم ، هم الذين عملت أجهزة استخباراتهم على التحريش بين المجاهدين ، هم العدو الذي عرّفه الله تعالى في كتابه وحذرنا منه ومن السماع لأقواله ، ولا زال البعض يفتقر لذاكرة الذبابة ، ولا زال البعض يُقرَص منهم ويُطعن ويقع في الحفرة تلو الأخرى ليعيد الثقة فيهم كل مرة ، وليت ربع عشر هذه الثقة كانت في رب العزة جل جلاله : إذاً لصلح حال الأمة ..
هل يذكر أحد ما أعلن بوش في حربه على الإسلام ؟ قال “هذه حرب صليبية” وتبعه في الإعلان كنائس البروتستانت الأمريكية والأوروبية ، وكنائس فرنسا وإيطاليا الكاثوليكية أعلنت الحرب المقدّسة على الإرهاب (الإسلام) ، واليوم تُعلن الكنيسة الأرثوذكسية الحرب الصليبية على الإسلام (الإرهاب) ، فهذه الحرب ليست دينية ، بل هي حرب مصالح دولية ، وحرب قوى عظمى على النفوذ ، هكذا يقول أصحاب ذاكرة الذبابة .. ولمن لا يعرف معنى الكلمات السابقة : فالكنيسة الأرثوذكسية هي الكنيسة الشرقية في روسيا وصربيا وغيرها ، والبروتستانتية هي الكنيسة التجديدية التي تهيمن على القرار الأمريكي وتؤمن بها بريطانيا ودول أخرى ، أما الكاثوليكية فهي الكنيسة البابوية في روما والتي تؤمن بها فرنسا ودول في أوروبا وأمريكا الجنوبية ودول شرق آسيا ، فهذه الكنائس الثلاثة تمثل أكثر من تسعة أعشار النصارى في العالم ، وكلها أعلنت الحرب على الإسلام (الإرهاب) ، فلا يمكن أن تكون هذه الحرب دينية ..
لما قال بوش بأنها “حرب صليبية” ، وقال “من لم يكن معنا فهو ضدنا” ، قال حكام العرب : نحن معك ، فدخلوا تحت الراية الصليبية ضد المسلمين .. واليوم يُعلن الروس بأنها حرب صليبية ، وقال الحكام : نحن مع بوتين ضد المسلمين .. البعض نسي الموقف الأوّل ، فتفائل خيراً بتدخّل الروس ظناً منه أن هذه الحكومات تتعامل مع الكنائس الأخرى بشكل مختلف ، فخيّبت الحكومات ظنه وأعلنت أنها تؤمن بجميع الكنائس النصرانية وإن اختلفت هذه الكنائس واختلف أصحابها .. من قال بأن العرب “اتفقوا على أن لا يتفقوا” فهو مخطئ ، فها هم اتفقوا على أن يتفقوا على حرب الإسلام تحت راية جميع الكنائس النصرانية المتخالفة المتناحرة فيما بينها ، فالجامع المشترك بين هذه الكنائس اليوم ، هو : ولاء حكام العرب لها جميعا ..
منذ قرون والغرب يصرّح بتصريحات ويعمل خلافها ، وأوضح ما يكون هذا في مسألة فلسطين ، فكم تصريح وكم قرار وكم وعد وكم كلمة قيلت في شأن فلسطين كلها ذهبت أدراج الرياح ، ولا زال البعض يتعلّق بقشّة الكلمات والقرارات حتى مل الغرب نفسه منها ومن عقول تصدّقها ، فلم يعد للكذب عندهم لون ولا طعم لشدة غباء المتلقّي !! لأول مرة رُفع علم فلسطين في الأمم المتحدة ، وهذا النصر التاريخي يطغى على ذاكرتنا فننسى أن فلسطين لا زالت محتلة ، وأن اليهود يدنسون أقصاها كل يوم ويقتلون المسلمين فيها ويعتدون على نسائهم !! البعض نسي فلسطين ذاتها وصار يقول “إسرائيل” !! الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها ما كانت تطمع في أكثر من هذا الفضل والمنّة من أعدائها أن يرفعوا علم فلسطين في محفل ماسوني نصراني !!
نسمع الآن تصريحات هنا وهناك في الشأن السوري ، وكلها من قبيل تصريحات القوم عن فلسطين ، فهل يعقل البعض ويدرك أن الفعل – وليس الكلام – هو مناط الحكم على المواقف .. انظروا ما يجري على الأرض –أو انظروا إلى الطائرات في السماء – ولا تلتفتوا لأي كلمة تخرج من سياسي ، فالأصل في هؤلاء البعد عن الصدق قدر المستطاع ، وهذا هو تعريف السياسة عندهم : “فن صناعة الكذب” ، ولا فرق بين سياسي عربي أو غربي أو شرقي ، فالسياسة اللاشرعية : ملّة واحدة ..
سمعت كلاماً في لقاء مع مسؤول أمريكي يقول : “إذا أخذت الدولة الإسلامية دمشق فإن الأردن ستسقط ، وستسقط الدول العربية تباعاً ، وستتجه جحافل الخلافة إلى أوروبا وأمريكا” ، وقريباً قال بوتين : “إذا نجح الإرهابيون في سوريا فسيأتون روسيا” ، هذا الكلام ليس من فراغ ، فالدول النصرانية لم تنس ما فعل العثمانيون من غزو أوروبا والشرق ، لم ينس الروس دفع موسكو الجزية للمسلمين سبعين سنة ، ولم ينسوا سجود وفد موسكو ودموعهم المنهمرة على حذاء السلطان سليمان القانوني ليفك عنهم حصار جيوش الإسلام ، ولم ينس الأمريكان دفعهم الجزية لمجاهدي الجزائر عن يد وهم صاغرون ، فذاكرة البعير حاضرة عند النصارى ، أما قومنا فالذبابة قدوتهم ، نسوا تاريخهم وعظمة أمتهم ولم يعرفوا معنى إعلان “خلافة إسلامية” ، وظنوا أن الأمر لا يتعدى مجموعة من الشباب المغامر المتنطّع الثائر ، وهم يرون رأي العين اجتماع جميع النصارى واليهود ومواليهم لحرب هذه الخلافة المعلنة : خلافة نسيها المسلمون وحُفرت معانيها في قلوب النصارى !! الدولة العثمانية بدأت قبيلة مشرّدة آواها أمير ، فجاهدت واستفحل أمرها ، وقويت فاجتاحها التتار حتى كادوا يمحوها من الوجود ، ثم كرّت ثانية فأخذت الحصون والقلاع والمدن حتى دخلت أوروبا من الشرق وأخذت بلاد العرب في الجنوب ودان لها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، وتلقب سلاطينها بالخلفاء ، فهذا تاريخ يعرفه الغرب جيداً ، ويجهله المسلمون أيما جهل !!
قال بوتين : سنجمع علماء المسلمين ليقولوا كلمتهم في شأن الدولة الإسلامية ، وقال كيري : يجب على علماء الإسلام تشويه صورة الدولة الإسلامية ، وكذا قال الرئيس الفرنسي والأمريكي ونتنياهو والعجوز ميركل وبابا الفاتيكان ، وهذا ما أوصت به مؤتمرات مكافحة الإسلام (الإرهاب) والمنظمات ومراكز الأبحاث النصرايهودية ، فممثلو الكنائس النصرانية واليهودية يطالبون “علماء الإسلام” بتشويه صورة المجاهدين عامة ، والدولة الإسلامية خاصة ، فهبّ البعض لتلبية هذا النداء نخوة وحميّة ، فالعرب لا يمكن أن يردوا من يستغيث بهم ، فصارت الدولة الإسلامية عميلة وخارجية ومتنطعة وغالية ومخرّبة ومتآمرة وكافرة وبعثية ورافضية ونصيرية ومشوّهة لصورة الإسلام ، وكل يوم هم في تصنيف وتهمة جديدة حتى قال كيري : “قمنا بحملة شاملة للحد من تجنيد المقاتلين في صفوف تنظيم الدولة” ، لا يا كيري ، لست أنت من قام بهذه الحملة ، بل هم هؤلاء العلماء الأفذاذ وطلبة العلم والإعلاميين والدعاة من أهل النخوة والنجدة ، هؤلاء من يُشكرون على هذا الجهد الكبير ، وإن كانت الأوامر صادرة من البيت الأبيض والكرملن والأليزيه وبرلين والفاتيكان وتل أبيب ، إلا أن العمل من بني جلدتنا الأشاوس ..
في خضمّ الدعاية المضللة للتدخّل الروسي (الجديد) في الشأن السوري ، نسي الناس حقيقة الحملة الصليبية على المسلمين بقيادة أمريكا ، وكأن البعض رضي بالتدخّل الأمريكي دون الروسي !! ما الفرق بين أمريكا وروسيا ؟ أمريكا تقدّم لنا السم في طبق مُذهَّب من العسل على طاولة فاخرة عليها ملاعق الفضة وفرش الحرير ، فيجلس المتجرّع للسم طوعاً أو كرهاً ويأكل من الطبق ، أما روسيا فتعطي المتجرّع سماً خالصاً في إبرة صدئة تغزه في الوريد ، فالسم واحد .. أمريكا تقتل السوريين بمنعهم مضادات الطائرات ، وبسماحها للإيرانيين والعرب بدعم بشار بالأسلحة والعتاد ، وتقصف السوريين تحت مظلة تحالف دولي ضد الارهاب ، أما روسيا فتأتي بطائراتها وتقتل المسلمين دون لف ودوران .. هناك منافسة بين روسيا وأمريكا في عدد قتلى المسلمين : فالروس قتلوا الملايين في آسيا الوسطى وأفغانستان ، وأمريكا قتلت الملايين في العراق والشام واليمن وأفغانستان وباكستان ، ويقتل عنها عبيدها بالوكالة في دول كثيرة .. الفرق بين البيت الأبيض والكرملن : هو لون المبنى فقط ..
الخطر الأكبر من أمريكا وليس روسيا ، لأن دعاتنا ومفكرونا يدعون الناس إلى طاولة السم الأمريكي بدعاوى كثيرة تنطلي على كثير من السذّج الذين يغرّهم لون الطبق المذهّب بخطوط الديمقراطية والدولة المدنية والحرية والعدل والإصلاح والإنسانية ومحاربة التطرف والإرهاب ، فأمريكا تقول للناس : لا نريد بشار ، وهم يدعمونه بالمال والسلاح ويسمحون بدعمه من قبل الآخرين ويمنعون السلاح ومضادات الطيران عن الثوار ، وإذا ألقى بشار البراميل المتفجرة والقنابل التي حرّموا على غيرهم استعمالها فهذا لا يضر ما دام المستهدف المسلمين ، ولا بأس بعمل مسرحيات من قبيل : عدم السماح باستخدام الأسلحة الكيماوية ، فلا يجوز قتل المسلمين بهذا السلاح ، ويجوز بغيره ، في منطق استخفاف خبيث وحقير بعقول وأرواح المسلمين ، والناس تصدّق هذه الدعاوى وتلهث خلفها لرؤيتها بريق الذهب في طبق السم الناقع !!
دعاوى أمريكا ليست أكثر خطورة على الأمة من دعاوى بعض أفرادها ، فمصطلحات كالديمقراطية والدولة المدنية والوسطية والاعتدال ، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب ، والمقاومة والمعارضة السلمية ، هذه المصطلحات والأفكار لا تقل خطورة على الأمة من مصطلحات أمريكا ، فهي كالمخدرات التي عطّلت طاقات الأمة وشبابها وحرَفتهم عن الحقائق الشرعية التي من أوجبها اليوم : الجهاد في سبيل الله ، والولاء والبراء ، والحكم بما أنزل الله .. الديمقراطية والدولة المدنية تضادان الحاكمية الشرعية ، والوسطية والاعتدال والدولة المدينة تضاد الولاء والبراء ، ونبذ العنف والتطرف ، والمقاومة السلمية تضاد الجهاد في سبيل الله ، فهذه المصطلحات الخبيثة يراد بها صرف المسلمين عن حقائق دينهم الكبرى وعن أسباب قوتهم ، فإن كانت القدرية والإرجاء والخارجية والرفض والجهمية والفلسفة اليونانية فعلت بالأمة ما فعلت فيما مضى ، فهذه المصطلحات لا تقل خطورة عنها ، وهي تُميت الأمة وتسلبها أسباب قوتها وتجعلها فريسة سهلة لأعدائها ، فلا يمكن أن تقوم لهذه الأمة قائمة بلا جهاد وولاء وبراء وحاكمية حقّه ، فكل شيء يضاد هذه الثوابت الشرعية يجب محاربته ونبذه ، ولو أننا نظرنا إلى حال الأمة اليوم لوجدنا أنها أُتيت من قبل هذه النظريات المضللة التي لا يعلم أكثر من يرددها حقيقة أمرها ومدى خطورتها ..
نعود إلى الشام .. هل دخلت روسيا إلى سوريا رغم أنف أمريكا ؟ الجواب : هي كانت في سوريا قبل الوجود الأمريكي ، وأمريكا هي الدخيلة عليها ، والروس كانوا يقصفون السوريين قبل الأمريكان ، وأما دخولهم الحرب علانية وبهذا الثقل فإنه توزيع أدوار لا أكثر ، وتمكين بوتين من صرف تكاليف الحرب من خزانة دولته واستجلاب الطائرات المتطورة ، فالعرب وأمريكا وأوروبا لا يستطيعون تحمل كلفة هذه الحرب التي استطاع المجاهدون فيها امتصاص الضربات الجوية ودحر الجنود على الأرض ، فكان لا بد من المشاركة الرسمية للروس ليحموا بشار من تقدم المجاهدين فيقيموا دولته النصيرية على الساحل من تركيا إلى الأردن ليحمي اليهود ودولة لبنان النصرانية الرافضية الحامية لحدود اليهود الشمالية ، وبهذا يتفرّغ الآخرون لقتال المسلمين في العراق والشرق السوري ، فهذه النجدة الروسية كانت لتحمّل بعض أعباء وتكاليف الحرب عن دول التحالف “الصليبي اليهودي العربي” ، خاصة وأن الحوثيون استنزفوا بعض المخزون المالي الخليجي ، وهناك جبهات أخرى في ليبيا وسيناء وأفغانستان وباكستان ومالي وغيرها تحتاج إلى مزيد تركيز من دول التحالف الكافرة ، فالروس يسدّون عن هذه الدول بعض الأعباء حتى تتفرغ هذه الدول للقتال في الجبهات الأخرى ، كما أن هذه الدول تطمع أن ينزل الروس جنوداً على الأرض بعد أن أحجمت هي ، وبعد أن خاب سعي الرافضة وملاحدة الأكراد والنصيرية ..
إن استطاع المجاهدون امتصاص الضربات الروسية فربما يستعين التحالف الكافر بدول أخرى : كالصين مثلاً ، أو يأتوا بجنود مرتزقة من أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية .. التدخّل الروسي العلني معناه : اعتراف التحالف بالهزيمة أمام المجاهدين ، وما كانت أمريكا لتشارك أحداً غنائهما ان استطاعت ، فهذا دليل ضعف أمريكا وهوان جيشها ، نسأل الله أن يمكن المجاهدين من رقاب الروس والأمريكان وأعوانهم فلا يجدوا من يستنجدوا به من شياطين الإنس .. على المجاهدين عامة ، والدولة الإسلامية خاصة ، التركيز على إرهاب الأعداء في الفترة القادمة أكثر من أي وقت مضى ، فما فات لا يقارن بما هو آت ، فالإرهاب الإرهاب ، وضرب الرقاب ، وعليهم الاستعانة بالمجاهدين الشيشان والأفغان في الشام ، فهؤلاء أدرى الناس بقتال الروس ، ولكن لا بد أن يكون القتال بطعم “دولاوي” “زرقاوي” إرهابي مزلزل ..
لم يسلم المجاهدون وقادتهم وأنصارهم من ذاكرة الذبابة ، فالبعض نسي بأن سبب ضياع الجهاد في أفغانستان كان التناحر والاقتتال الداخلي ، وهو نفس السبب في الصومال والعراق وليبيا ، وسبب النجاح في مالي كان اتفاق الفصائل ، وكذا في الشيشان ، وبعد قيام إمارة طالبان في أفغانستان ، فقضية النصر في قوله تعالى {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد : 7) مشروطة بنصر الدين المتمثل بإتيان الأوامر واجتناب النواهي ، وليس الإخلاص وحده كافياً لتحقيق النصر ، فمن أخطأ {واعتصموا} أو تجاهل {ولا تنازعوا} أو أعرض عما اختار الله تعالى لعباده في قوله سبحانه {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف : 4) وظن أن النصر يأت بما لا يحب الله من القتال في صفوف متفرقة متنازعة ، فهذا من أعظم الجهل ، ومعتقد هذا تناسى المواقف السابقة القريبة التي جعلها الله تذكرة لمن كان له قلب أو ذاكرة ..
قبل الاقتتال كنا قاب قوسين من اللاذقية ، وبعد الاقتتال تراجعنا إلى ما بعد دمشق ، ولما توقف الاقتتال رجعنا إلى قريب الساحل ، فهل هذه دلائل يراها العقلاء أم مجرّد أحداث خالية المعنى !! البعض يظن بأنه يستحق النصر لكونه مجاهداً في زمن الخذلان ، ونسي هذا المسكين أن دم الرسول صلى الله عليه وسلم اهريق وقُتل خيرة أصحابه لعصيان الرماة أمره في أُحد ، وأن كلمة كادت تودي بالجيش الإسلامي في حُنين ، فالمعصية في مواقف القتال من أعظم أسباب الخذلان ، ومن أعظم المعاصي في الجهاد : تفرّق الرايات وتنازعها ..
من أعظم ما حاربَنا به أعدائنا : تفعيل النظرية الإنجليزية “فرّق تسُد” ، فقد فرّقوا الأمة ومزّقوها وجعلوها دويلات ، ثم مزقوا شعوب الدويلات بنظريات وفلسفات خبيثة كالوطنية والقومية والشيوعية والإلحاد والعلمانية ، ثم قامت “الصحوة الإسلامية” على أيدي جماعات قاموا بتمزيقها وزرع العداوة بينها : فهذا إخواني وهذا سلفي وهذا تبليغي وهذا تحريري وهذا مبتدع وهذا ضال ، وهي ليست أحكاماً فقهية بقدر ما هي مناط لولاء وبراء شغب على المحيط الشرعي الجامع للأمة تحت راية لا إله إلا الله .. جاء الجهاد الأفغاني واجتمعت الأمة على نصرته فتناسى الناس لبرهة خلافاتهم ، ثم ما لبثوا أن تفرقوا في أفغانستان وباكستان ورجعوا إلى سابق عهدهم من تصنيف وتخوين وتكفير ، كل هذا كان على عين المخابرات العربية والغربية ..
رجال مخلصون يعملون من أجل الدين ولكن قصرت أنظارهم عن مكر عدوّهم فأصبحوا فريسة سهلة لكيده فتنازعوا بينهم أمرهم كل حزب بما لديهم فرحون ، وكل جماعة اعتقدت جازمة أنها هي المنصورة وهي المخلّصة ، وما تجمعهم قضية إلا وتفرّقم النزعة الاستعلائية ومنطق الإنفراد بالقيادة ، ويغلب عليهم سوء الظن والاستخفاف بالآخرين !!
نحن أهل الحق ، ووسيلتنا هي الموصلة للأهداف ، ونحن أهل العلم والبصيرة ، ونحن أولى الناس بالقيادة ، ونحن أهل السبق والعمل ، ونحن أهل التجرّد والإخلاص !! الحقيقة أن “نحن” هذه تغلغل فيها شياطين الإنس والجن حتى أصبحت كارثة وكابوساً على المسلمين ، فالأصل أن “نحن” هي الأمة كلها وليست طائفة بعينها فضلاً عن أفراد ، ومن لم يفهم هذه المعادلة فهو خارج محيط “النحن” وداخلٌ في دائرة “الأنا” البغيضة .. لم يضيّع اللهُ تعالى الأمة بوفاة رسولها – بأبي هو وأمي – صلى الله عليه وسلم ، ولن تضيع بموتك ولا بموتي ولا بفناء جماعتك .. الله هو الناصر ، وهو ينصر هذه الأمة بالبر والفاجر ، فالنصر ليس حكراً على أحد ، والإقصاء هو الداء ، والدواء هو التواضع وترك الاستعلاء على المسلمين ، وصرف جميع أصناف العداوة والبغضاء والشدّة والغلظة والبأس على الكافرين ..
البعض بات يولول لمشاركة روسيا قصف الثوار وكأن الجهاد انتهى في سوريا ، ذاكرة الذبابة لم تسعفهم فيتذكروا أفغانستان والقوقاز وذكريات الروس فيها ، لم يستطع الروس القضاء على المجاهدين الأفغان يوم أن كانوا الإتحاد السوفيتي ، والأفغان بدؤوا حربهم بالعصيّ والحجارة .. البعض لا يعرف قيمة العقيدة في القتال : أين الشيوعي الملحد من المؤمن المجاهد !! أتخوفونا بروسيا !! إن أخشى ما نخشاه هو بقاء هذا التنازع والتخالف بين المجاهدين ، ولو أن أهل الجهاد اجتمعوا في الشام على قلب رجل فأتونا بألف روسيا وألف أمريكا وألف إيران فلن يضروا المجاهدين شيئاً بإذن الله ..
إن سبب ضعف المسلمين ليس قوة عدوّهم ، بل سببه تفرقهم واجتماع عدوهم عليهم ، وانظروا إلى أمريكا وروسيا وفرنسا : فهذه الدول بينها حروب وعداوات لقرون طويلة ، سواء سياسية أو عقدية ، ومع ذلك استطاعوا التنسيق فيما بينهم والاجتماع على حرب عدو مشترك ، فمتى يعي المجاهدون الدرس ويجتمعوا ، ويعلموا أن الأعداء لا يفرقون بين جماعة وأخرى ، فمن قال “لا إله إلا الله” وشكّوا – مجرّد شك – في إخلاصه لهذه الكلمة فهو عدو لهم ولحضارتهم ودينهم يجب استئصاله ، لا بد عندهم من “الإعتدال” الذي هو “النفاق الأكبر” المخرج من الملّة ، فمن لم يكن “معتدلاً” على مقياسهم : فهو مسلم إرهابي عدو للحضارة النصارنية ، يجب قتله ..
الأرثوذكسي يكفّر الكاثوليكي ، وهما يكفّران البروتستانتي ، والأمريكي يُبغض الروسي وكلاهما يُبغض الفرنسي ، ولكن المصلحة جعلتهم يجتمعون في هذه الظروف ، ونحن بين تكفير وتفسيق وتصنيف لا تجمعنا مصلحة ولا يوحدنا موقف رغم وحدة الدين واللغة والعرق والبلد والدم والنبي والكتاب والتراث والتاريخ والجغرافيا والمصير وجميع الحسابات الشرعية والأرضية ، هذا هو الفرق بيننا وبين أعدائنا ، وهو سبب هواننا وظهورهم علينا ، ولو أننا أعملنا ربع عشر عشر العقل لعلمنا يقيناً أن مصلحتنا في اجتماعنا ، ولكن أين من يُعمل هذا القدْر البسيط من العقل !!
رحم الله قائداً أخذ بعنان جماعته فضمها إلى أخرى ابتغاء مرضاة الله ونصرة لدينه ، ورحم الله قائداً سعى في إصلاح ذات بين المجاهدين ، ورحم الله قائداً تعالى عن الأنا والأنانية ودخل في الجماعة والأمة بنفسه وجماعته ، ورحم الله قائداً نظر إلى حال الأمة فعلم أن الله تعالى أمرها بالاجتماع فدعى إخوانه للاعتصام بحبل الله وعدم الفرقة ، ورحم الله قائداً سن للناس اليوم سنة التراصّ لينال أجره وأجر من تبعه على فعله إلى يوم القيامة ، ورحم الله قائداً أحسن الظن بإخوانه ، ورحم الله قائداً تجاوز عن زلل إخوانه ، ورحم الله قائداً بدأ إخوانه بالسلام ، ورحم الله أفراداً وجنوداً نصحوا قادتهم بعمل ما يرضي الله تعالى من اجتماع الكلمة ، ورحم الله عالماً وطالب علم وكاتب دعى المجاهدين إلى طاعة ربهم باجتماع كلمتهم .. اللهم وحّد صفوف المجاهدين ، ومكّنهم من رقاب أعداء الدين ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
18 ذو الحجة 1436هـ
_________________
To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]