بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت رسالة كتبها الشيخ عبد الله المحيسني – شفاه الله وعافاه – عنوانها “الإبانة في أحوال الفصائل في باب الإستعانة” ، ولا أدري متى كتب الرسالة لأنها غير مؤرخة عندي ، وقد أنكر على من قال بأن “الإستعانة” بغير المسلمين في المسألة السورية كفر ، وآثرت أن أخاطب الشيخ عبد الله مباشرة لأن الخطاب المباشر أبلغ وأوقع في القلب ، فأقول مستعيناً بالله :
أيها الأخ الفاضل : تعلم أكثر من كثير من الناس بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وقبل الكلام عن مثل هذه المسائل لا بد من تصور الواقع تصوراً حقيقياً ليكون تنزيل كلام العلماء عليه صحيحاً ، فالمسألة التي نحن بصددها اليوم ليست مسألة استعانة بكافر على مسلمٍ باغٍ ، بل هي تمكين للكفار في بلاد المسلمين تحت مظلّة هذه المسألة الفقهية التي لا تمت للواقع بصلة ..
لا يخفى عليكم بأن احتلال السوفييت لأفغانستان كان تحت مظلة هذه المسألة ، وأقصد مسألة الاستعانة بالكفار على الباغيين ، فحاكم أفغانستان هو من طلب من السوفييت “التدخّل” في أفغانستان .. ولا يخفى عليكم بأن هذه المسألة كانت حجّة من دخل تحت الراية الصليبية الأمريكية في أفغانستان ، فقالوا بأن الطالبان فئة باغية يجوز الاستعانة بالكفار في حربها .. ولا يخفى عليكم بأن مسألة “الاستعانة” بالكفار على قتال الكفار كانت السبب في احتلال الأمريكان لجزيرة العرب في الحرب الخليجية الأولى ، وقد بح صوت كثير من طلبة العلم والعلماء آن ذاك يبيّنون للمشايخ بأن الأمر احتلال وليس استعانة ، وكتب بعض الكتب في ذلك وجاء بالأدلة الدامغة ، فرحم الله المشايخ الذين لم يأخذوا بكلام هؤلاء حتى احتل النصارى جزيرة العرب .. ومسألة الاستعانة بالكفار على أهل البغي سبب تدخل الصليبيين في الصومال ، وتدخل الروس في الشيشان ، وتدخل الفرنسيين في مالي ، وتدخل الأمريكان في العراق والشام وباكستان واليمن ..
واقعنا اليوم ليس فيه استعانة ، فالحلف صليبي ، والراية صليبية ، والحكم للصليبيين ، وتركيا دخلت تحت هذا الحلف الصليبي ، والحكومة التركية تُعلن العلمانية ، والجيش التركي علماني حتى النخاع ، وحتى لو كانوا مسلمين فهم تحت راية صليبية ، فالراية الصليبية هي الحاكمة وهي المستعينة بهذه الطوائف لقتال المسلمين الذين يدّعي البعض “بغيهم” أو”خارجيتهم” ، فالمسألة برمتها خارجة عن بحث الإستعانة وليس لها أي ارتباط بها إلا إن كنا نريد الكذب على أنفسنا ، فالكل يعرف معنى “الإستعانة” وحقيقتها ، وإنما العبرة للمعاني لا المباني ..
الدولة الإسلامية : على اسمها دولة مسلمة ، وتمكينها من سائر الشام خير من تمكين الصليبيين تحت بند “الإستعانة” ، وأنتم تعلمون يقيناً حال الجماعات التي تتلقى “المساعدات” من هنا وهناك تحت باب “الاستعانة الغير مشروطة” ، فهذا كسابقه باب من أبواب الضحك على الذقون لا يُصدّقه من له أدنى معرفة بهذه الحكومات .. الواجب على هذه الجماعات أن تكون جماعة واحدة ، تحت راية واحدة ، وهذا ما دعتهم إليه الدولة الإسلامية ، وهو ما تقاتلهم عليه اليوم ، ونحن نعتب على الدولة بعض سياساتها في هذا الصدد ، ولكن الأمر عندها – كما هو عندنا – لا يحتمل التأخير ولا التسويف ولا المجاملات ، ونعجب من جماعات ترفض الدخول تحت راية الدولة الإسلامية المجاهدة وترضى بالدخول تحت الراية العلمانية الأتاتوركية الكافرة الداخلة تحت الراية الصليبية الحاقدة !!
ليس كل خلافٍ جاء معتبراً ، والمسألة هذه لا يُتصوّر فيها خلاف إلا إذا غيّرنا الواقع وقلنا بأن الحلف ليس صليبي ، وأن تركيا ليست داخلة في هذه الحرب تحت الراية الصليبية ، وأن الجيش التركي ليس علماني أتاتوركي صرف ، وأن الدول العربية المانحة : صادقة في “مساعداتها” ، وأن مصالحها تتقاطع مع مصالح الجماعات المقاتلة دون مصالح أمريكا التي تشترط على مندوبيها : عدم قتال بشار ، وقتال الدولة الإسلامية حصرياً .. كل هذا يكذّبه الواقع الذي يفضح هؤلاء كل يوم ويُظهر مظاهرتهم للنصيرية على المسلمين وضحكهم على الجماعات المقاتلة التي يريدونها فقط لقتال المجاهدين ثم يدخلون بعض قادتهم في عملية سياسية تحفظ حدود يهود من كل مكروه وتضمن قيام دولة لا دينية فاشلة كما فعلوا في أفغانستان وليبيا والصومال وغيرها من البلاد !!
إن كنتم قرأتم لنا أي شيء فإنكم تعلمون يقيناً بأننا أبعد ما نكون عن تكفير الجماعات فضلاً عن الأعيان ، وهداية مسلم واحد أحب إلينا من فتح بغداد ودمشق ، ونحن أحرص ما نكون على صفاء الراية ونقاءها ، وأحرص على سلامة المجاهدين من سلامة فلذات أكبادنا .. لقد عشنا أحداث العقود الماضية بكل قلوبنا وجوارحنا ، وعرفنا مداخل الأعداء علينا ومخارجهم ، ونحن إذ نحذّر من هذه الردّة – وهي ردّة – فإننا لا نحرص على تكفير إخواننا بقدر ما نطمع في هدايتهم وتحذيرهم من هذا المنزلق الخطير الذي يُصبح أحدهم فيه مجاهداً صادقاً ، ويمسي حليفاً للصليب مرتداً !!
لقد أحسنتم بإيرادكم نصاً من كتاب الشيخ العقلا – رحمه الله – والذي هو بعنوان “القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار” ، وفي هذا الكتاب ما يُغني عن الشرح والاستدلال ، ولو أنكم طبعتم هذا الكتاب وقمتم بتوزيعه على المجاهدين لرجوت أن يكون في ذلك خير كثير ، فهو من أجود ما كُتب في الباب على صغر حجمه ..
أخي الفاضل : البغي معلوم ، وقد ذكر حدّه الشيخ العقلا – رحمه الله – في كتابه ، والاستعانة معلومة ، والمسألة هنا غير ما ذكرتم ، فلا وجه لنقل كلام العلماء في مسألة الاستعانة بالكفار على البغاة وإن ذكر الشيخ العقلا – رحمه الله – إجماع العلماء في المسألة فقال : “وقد اتفق من يُعتدّ بقوله من علماء الأمة وفقهائها على أنه لا يجوز للحاكم المسلم أن يستعين بالدولة الكافرة على المسلمين بأي حال من الأحوال” ، إلى أن قال : “وقد ذهب بعض العلماء إلى أن من صور الاستعانة بالكفار على أهل البغي ما يكون كفراً” (انتهى) ، وذكر في الحاشية : “وذلك في حالة ما إذا كان حكم الكفار جارٍ على المستعين لهم وغالب عليه” (انتهى) ، فقل لنا بالله عليك : أي هذه الجماعات حكمها جارٍ على أمريكا والحلف الصليبي ، هذا إذا كانت المسألة استعانة !!
ثم نقل الشيخ العقلا – رحمه الله – كلام الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله (من مجموع الرسائل والمسائل النجدية) فقال : “أما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمد القياس ولم ينظر إلى مناط الحكم والجامع بين الأصل وفرعه ، ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة واعتمد في نقله وفتواه فقد تتبع الرخص ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها المستفاد من حديث الحسن وحديث النعمان بن بشير ” (انتهى) ، وقبلها قال الشيخ العقلا : “أما من قال من المنتسبين للعلم بجواز الاستعانة بالكفار على قتال أهل البغي عند الضرورة فليس له حجة ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر صحيح” (انتهى) ..
نقول : لا يجوز تصوير النازلة التي نحن بصددها أنها خلاف فقهي في مسألة الاستعانة ، فهي ليست كذلك ، بل هي مسألة تولٍّ ومظاهرة للكفار على المسلمين ، ومسألة تمكين للراية الصليبية في بلاد الإسلام ، وبعبارة أدق : “هي مسألة استعانة كفار بمسلمين على قتال المسلمين” ، ذلك أن أمريكا لا تريد الزج بجنودها في الحرب ضد المجاهدين فاستخدمت الرافضة العرب ثم الأكراد والنصيرية والرافضة الفرس والترك ، والآن تريد استخدام الجماعات المقاتلة في سوريا ضد “الدولة الإسلامية” ومِن بعدها “جبهة النصرة” ثم أي جماعة تقول لا إله إلا الله مخصلة في دعواها ، وتاريخنا المعاصر يخبرنا بأن أمريكا تحارب أي جماعة أو قائد فيه مسحة من إسلام ولو أعلن الديمقراطية والدولة المدنية بل وحتى العلمانية اللادينية الكفرية ..
نحن نربأ بطلبة العلم أمثالكم أن ينزلقوا في هذا المزلق الخطير ، ونربأ بالشيخ أبي قتادة – الذي قدّم لهذا البحث – أن تغيب عنه حقيقة مثل هذه المسألة وهو من عاصر الحروب السابقة وعلم يقيناً حال هذه النازلة وحقيقتها ومآلها وحقيقة القوى المتحالفة وحقيقة رايتها وخبث طويتها ، ولو لم يكن في كتاب الله تعالى غير هذه الآية {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} (هود : 113) لردعَت من كان له قلب ، فكيف وآيات الولاء والبراء أكثر ما جاء في القرآن بعد التوحيد وبيان ضده ، ولذلك بدأ الشيخ العقلا – رحمه الله – ببيان حقيقة الولاء والبراء في كتابه قبل حكم الاستعانة !!
إنما خاطبتكم مباشرة لأقول لكم : إن بدايتكم في هذه الفتنة كانت حكيمة ، وكنا نعقد الأمل – بعد الله عز وجل – على أمثالكم من طلبة العلم في رأب الصدع وجمع الكلمة ، ولو أنكم بذلتم أنفسكم في سبيل هذا – ولو على حساب مباشرة القتال – لرجوت أن يكون أجركم عند الله أعظم ، لأن النكاية في العدو بتوحيد الصفوف ورصّها أعظم أجراً عن الله من المشاركة في مقاتلته بأحزاب وجماعات متناثرة متناحرة تتسوّل بعضها المساعدات من هذه الحكومة العميلة أو تلك بما لا يليق بأفسق مسلم ، فكيف بأهل الجهاد وممتطي ذروة سنام الإسلام ..
إن أفراد وقادة الدولة الإسلامية إخوانكم ، وقد حصل ما حصل بينكم مما حصل أعظم منه بين من هو خير منكم ، ونهيب بأمثالكم أن يكونوا مفاتيح خير ومغاليق شر ، والخير كل الخير في جمع الكلمة ، والشر كل الشر في الاقتتال الداخلي لأن مصلحته متحققة لعدوكم ، وما تأخر فتح دمشق والساحل إلا بسبب هذه الفتنة ، فلا يصمد النصيرية – وأمم الأرض كلها – أمام جند الله إن اجتمعوا وكانوا على قلب رجل واحد ، وما أصدق قول الفاروق رضي الله عنه للفارسي : “إنما غلبتمونا باجتماعكم وتفرّقنا” ، فلا أرى سبباً لهذا التأخير إلا هذه المعصية ، ولو أنكم أطعتم الله وبذلتم الجهد واستعنم به سبحانه واستعذتم به من الشيطان الرجيم الموسْوِس بالتحريش بين المسلمين لكان الأمر غير الذي نراه ..
هذه نصيحة أخ لأخيه ، وهي نصيحة محب مشفق ، نصيحة يعتصرها الألم والدمع والحزن على الحال : تواضعوا لله يرفعكم ، ولينوا في أيدي إخوانكم ، واعملوا على اجتماع كلمتكم ، واحرصوا على هذا أشد الحرص فإنه من أعظم أسباب النصر ، واصبروا على هذا الأمر وصابروا ورابطوا وجاهدوا فيه وتحمّلوا من أجله كل أمر .. لو أن أهل الجهاد في الأرض اجتمعوا اليوم لكانت الدائرة للمسلمين في بضعة أشهر وليس في سنوات ، ونستطيع هذا الآن لو اتفق عدد بسيط من القادة يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة ، ولو لم نغتنم هذه الفرصة فلا ندري متى تتأتى ، وهل يحصل التمكين ، وإن حصل لجماعة ما بعد حين : فبأي ثمن !!
إنها لحظات تأريخية في حياة الأمة ، فانظر رعاك الله موقعك منها ، هل تكون عابراً كغيرك ، أم مغيراً لهذه اللحظات بما منَّ الله عليك من تواجد في الجبهات ، فالله الله في دماء المجاهدين وتضحياتهم لا تضيّعوها بخلافاتكم ، ووالله ليست السيادة في الإسلام بالإصرار على الرأي والعناد وطلب القيادة وكثرة الأتباع والمريدين ، وإنما السيادة – كل السيادة – في النظر لمصالح الأمة العليا وتقديمها على غيرها ، وفي الحكمة والأناة والحلم وخفض الجناح ولين الجانب للمسلمين ..
لا تقنطوا من رحمة الله ، وابتغوا من المولى رضاه ، واتركوا القيل والقال ، ولا تلتفتوا لجاهل لا يعرف مآلات الأفعال ، واتقوا الله ، اتقوا الله ، اتقوا الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. لا تنازعوا ، ولا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا .. تناصروا ، وتعاضدوا ، وتكاتفوا ، ولا تظلموا إخوانكم ، ولا تُسلموهم ، ولا تشمتوا ببعضكم البعض فيشمت بكم عدوّكم ، وإياكم والطعن واللعن والفحش والبذاءة ، وابتعدوا عن سوء الظن ، وغلّبوا أحسنه في إخوانكم ، ولا تُعجبكم أنفسكم ، ولا قوّتكم ، ولا عددكم وعتادكم ، فإنما بالله تُنصرون ، فلا حول ولا قوة لكم إلا به ، فتوكلوا عليه حق التوكّل ، واحذروا المعاصي فإنها مهلكة الجيوش ، وقد بدأتم “بجيش الفتح” فلا تتوقفوا حتى يحصل الفتح باجتماع الكلمة مع إخوانكم في الدولة الإسلامية : راسلوهم وألحّوا عليهم في السر بينكم وبينهم ، ولا تُطلعوا عدواً ولا من لا تثقون به على مراسلاتكم .. اجمعوا رايتكم وادمجوها براية إخوانكم ، ولو فعلمتوه فإن النصر من يومكم أو غدكم بفتح لا يخطر على قلوبكم ، فالله لا يخلف وعده {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ..
وختاماً أقول لكم ولإخوانكم في جميع الجبهات : فكّوا العاني ، فكّوا العاني ، فكّوا العاني .. هذه وصية نبيكم – بأبي هو وأمي – صلى الله عليه وسلم ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
1 ذو القعدة 1436هـ
_________________
To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]