New article from Shaykh Ḥussayn bin Maḥmūd: "An Eye and an Eye"

بسم الله الرحمن الرحيم

ما أصدق بيت تناقلته الركبان ونسبه البعض للإمام الشافعي ، وهو ضمن ديوانه المطبوع ، والبعض ينسبه لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما .. بيت فيه تطابق عجيب بين كلماته وحال أهل زماننا ، هذا الكمّ الهائل من التعصّب للجماعة أو الأفراد وغياب الإنصاف في كلام كثير من الناس يذكّرنا بقول شاعرنا (أياً كان) :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة … كما أن عين السخط تبدي المساويا

لعله نقص في التربية ، أو نقص في العقول ، أو نقص في إخلاص القلوب ، فالذي لا شك فيه أن هناك نقص في مكان ما يجعل كثير من الناس يحكمون على الأحداث والجماعات والأفراد بعين واحدة : إن كانت جماعتنا فلها عين الرضى ، وإن كانت المُخالفة فنصيبها عين السخط المحتوم !!

رأينا أناس يقلبون الحسنة سيئة ، والسيئة حسنة ، ورأينا من التكلّف في ذلك العجب العُجاب ، وعبثاً تحاول اقناع إنسان بأن في الجماعة الفلانية أو الشخص الفلاني حسنات وسيئات ، هذا غير مقبول ولا يُمكن أن يُتصوَّر !! بل رأينا الحكم بالمآلات ومآلات المآلات في تسلسل يحكي قصة العقل الغائب ، ومن الغرائب قول بعضهم : “رأيت في الجماعة الفلانية شاباً يشرب البيبسي ، ومعنى ذلك أنهم يسمحون للبضائع الأمريكية بالدخول في مناطقهم ، وهذا من التساهل الموحي بانعدام البراء من الكفار ، ومن الأدلة الدامغة على أن هؤلاء عملاء لأمريكا” !! هكذا يغيب منطق العقل ، ويطغى منطق التعصّب المقيت !!

المصيبة أن قادة بعض الجماعات يُنشؤون أتباعهم على هذه الفلسفة الغريبة في النظر إلى الأمور : فكل ما عند الجماعة المخالفة خطأ لا يمكن أن يتخلله صواب ، وكل ما عند جماعتهم صواب لا يتطرق إليه الخطأ ولا ينبغي ، وبذلك نضمن إنشاء جيل أعور !!

الجماعة الفلانية فتحت المدينة الفلانية : الأعداء هم الذين انسحبوا وتركوا المدينة لهذه الجماعة لأنهم عملائهم !! جماعتنا فتحت مدينة وفرّ الأعداء منها لا يلوون على شيء خوفاً من أهل الجهاد الأبرار الأخيار !! الصورة واحدة ، ولكن هذه جماعتهم وهذه جماعتنا ، فلزم التأويل هناك والأخذ بالظاهر هنا !!

فلان : قائد فذ مجاهد شيخ علّامة قدير حكيم عبقري نحرير لا يُشق له غبار ولا يُدرَك لإخلاصه قرار .. خالفَنا !! هو جاهل عميل خائن ذليل لا قيمة له ولا وزن ولا يستحق الإحترام والتبجيل !! فلان كتب مقالة أو قال كلمات فيها إطراء لجماعتنا ، هذا هو الذي يفهم الأمور ويزنها بميزان الحق ، نسأل الله أن يقيه من كل الشرور .. كتب في الغد جملة لا تروق لنا : هو ضال مُضلّ ساقط لا نقبل منه صرف ولا عدل جعله الله من سكان القبور !!

الله تعالى قال في كتابه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة : 219) فهذه أم الخبائث أُنصفت في القرآن وقيل أن فيها منافع للناس هي والميسر ، وضررهما أكبر ، فأين إنصاف المسلمون لبعضهم البعض ، هلا تفكّروا وتدبّروا كلام الله تعالى !!

كانوا بالأمس جماعة واحدة أفرادها يحب بعضهم البعض ويُثني بعضهم على بعض ويفدي بعضهم بعض بحياتهم ، واليوم أصبحوا جماعتين : يسب بعضهم البعض ، ويُبغض بعضهم البعض ، ويتشفّى بعهم من بعض ، ويتمنى بعضهم زوال الآخر ، ويرجوا بعضهم هزيمة الآخر ولو من قِبل أعداء الإسلام من النصارى والملاحدة والرافضة والنصيرية !!

الخمر والميسر فيهما منافع للناس بنص القرآن ، ولكن المخالف ليس فيه خير ، ولا فائدة مرجوّة منه !! رأينا رسائل كبيرة وورقات كثيرة لأتباع بعض الجماعات قلبت كل حسنة سيّئة في الجماعات الأخرى ، وقلبت كل سيّئة حسنة في جماعتها ، وهذا من أعظم الظلم للنفس قبل الغير ، والمصيبة أن بعض هؤلاء من طلبة اللعم ، فإن كان هذا صنيع هؤلاء فكيف بمن ورائهم !!

أنت تخالف الجماعة الفلانية ولعلك تعاديها مخالفاً بذلك أمر ربك بموالاة المؤمنين ومناصرتهم ومحبتهم والعمل على وحدة الصف ، فلا تجمع بين هذه المعاصي وبين معصية الظلم ، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة : 8) حتى لو كنت تقاتل هذه الجماعة بالصواريخ والقنابل والدبابات فأنت مأمور بالعدل في الشهادة عليها ، ولا يجوز أن تشهد زورا ..

هم ليسوا من جماعتك لكنهم مسلمون ، وليسوا من فصيلك لكنهم مسلمون ، وليسوا من مناصريك ولكنهم مسلمون ، وحتى لو لم يكونوا مسلمين فأنت مأمور بالعدل في شهادتك {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الأنعام : 152) ، تذكّر أخي أن هذا أمر الله ..

الكلام هنا ليس على أطنان الكذب الذي يلقيه الإعلام عن الجماعات المجاهدة ، بل الكلام عن أفراد هذه الجماعات ومناصريها الذين يظن بعضهم أن في ذكر حسنة في المخالف خيانة لجماعته أو ظهور للجماعة الأخرى أو انتصار لأنصارها عليه وغياب حجّته أمامهم ، فالرقابة هنا للجماعة ولأنصار الجماعة وليس لله سبحانه وتعالى ..

الصحابة رضوان الله عليهم تقاتلوا فيما بينهم ، ولكنهم لم يشهدوا بالزور على بعضهم البعض .. في معركة صفين كان جيش الشام يصلي مع جيش العراق جنباً إلى جنب ، والكل يأتم بأبي الحسنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فالكل يشهد له بالفضل ، حتى معاوية رضي الله عنه كان يجلّه ويعرف شرفه ومنزلته ، وما ذكر بعض المؤرخون من أمور مخالفة لهذه الحقيقة هي في الغالب من روايات الرافضة .. استأذن قاتل الزبير بالدخول على عليّ بعد معركة الجمل ، فقال عليّ لحاجبه : “بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار” ولم يستقبله ، فابن خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وما كان لعلي رضي الله عنه أن يشهد بغير هذا رغم القتال الذي حصل بينهم ..

قالوا : “من لم يَدْعُه العدل إلى الإنصاف ، دعاه الجور إلى الانتصاف ، وأعدلُ الناس من أنصفَ من نفسه” .. قال تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} قال ابن عيينة : “العدل : الإنصاف ، والإحسانُ : التفضُّل” ، فهل أدرك البعض درجة العدل حتى يُدرك منزلة الإحسان !! هل يُدرك البعض أنه بتزويره الشهادة يَظلم المشهود عليه وأن “الظلم ظلمات يوم القيامة” (البخاري ومسلم) ، فكيف به إذا رفع المظلوم يده ودعى ربّه وحُملت دعوته على الغمام وفُتحت لها أبواب السماء ونظر إليها ربّ العزّة والجلال فقال “وعزّتي وجلالي لأنصُرنّكِ ولو بعد حين” (الترمذي وصححه الألباني) ..

اختلف البعض في الوسائل واتفقوا في الأهداف ، فكان اختلاف الوسائل والرؤى مدعاة الخلاف والتمايز والتصادم والظلم والكذب والسِّباب والِّلعان ، وهذا من أعجب الأمور ، بينما اختلف الأعداء في الأهداف والرؤى والأديان واللغات والقوميات والأعراق والبلدان واتفقوا على قتالنا فأرجأوا جميع خلافاتهم .. فمتى يعقل البعض !!

إن لم نكن صادقين مع أنفسنا ، ولم نكن منصفين لإخواننا ، فكيف نصدق مع ربنا ، وكيف نطلب منه المدد والنُّصرة ونحن نعصيه بظلمنا لإخواننا !! نُصرة دين الله لا تكون بشهادة الزور ، ومعيّة الله لا تُطلب بظلم العباد ، والإصرار على التمايز والتفرقة من أعظم الظلم للأمة كلها ، وما يفعله البعض من إذكاء نار العداوة بين المسلمين هو الخسران المبين وإن اعتقد أنه ينصر الدين ..

توقّفت الفتوحات في عهد الفتنة بين الصحابة ، واشتغل المسلمون بأنفسهم ، وقُتل منهم عشرات الآلاف من خيرة الصحابة والتابعين ، ولم تتوقف هذه الفتن حتى تنازل سيّد الناس في عصره لأعظم ملوك الإسلام ليُفتح بعد ذلك سوق الجهاد في الأمة ، فمتى يعي قادة الجماعات المتشبثين بآرائهم ونظرياتهم أن الأمر أمر الأمة وليس أمر جماعتهم أو حزبهم ، وأن الأمة تعاني الأمرين من هذه الفتن ، وأن الأعداء تداعوا عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ..

لعلنا نبدأ طريق الوحدة بالنظر إلى الأمور بعين الإنصاف لا بعين الخلاف ، ونعوّد أنفسنا على القسط لا الجور ، وأن نشهد بالعدل لا بالزور ، فإذا كان هذا البيت واقعاً في حياتنا :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة … كما أن عين السخط تبدي المساويا

فلمَ لا نسترشد برأي من زاد عليه ، بقوله :

ولكنَّ للإنصاف عيناً إذا رنَتْ … تبدَّتْ لها الأشياء حتما كما هيا

قيل بأن الزيادة لشيخ من الجزائر اسمه أبو اسحاق العباسي ، رحمه الله حياً وميتاً ، فما أجمل أن يجعل الإنسان هذه الزيادة نصب عينية فينظر إلى الأمور بعين الإنصاف ، والباحث عن مصلحة الأمة يُبرز نقاط الإتفاق لا الخلاف ، أما من يريد لها الفتنة فهو الذي يختلق لها مواطن خلاف ويُقسم أنه من الناصحين ..

والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم ..

كتبه
حسين بن محمود
1 ذو القعدة 1436هـ

___________________

To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]