بسم الله الرحمن الرحيم
يقال بأن الإرهاب وليد الظلم والاستبداد ، وأنه ردة فعل لما يصيب الإنسان من قهر ، والبعض يحيل هذا الفعل إلى عوامل نفسية في طبيعة الإنسان تخرجه من ميزان الإعتدال إلى التطرّف في لحظات ومواقف معيّنة ، وهذا كله لا قيمة له من الناحية السياسية أو الشرعية ، فالسياسة تقتضي نوعاً من الإرهاب ، والشرع أقرّ الإرهاب وحضّ عليه ، فالإرهاب عملية مكتسبة تقتضيها الظروف لا دخل لها بالعوامل النفسية وردات الأفعال ، والإرهاب بمعناه اللغوي يحوم حول التخويف وبث الرعب ، ولهذا أسباب كثيرة مشروعة وغير مشروعة ، فإرهاب العدو وتخويفه أمر محمود مشروع ، وإرهاب المسلمين الآمنين وتخويفهم مذموم ومحرّم ، فالإرهاب أداة سياسية وشرعية لتحقيق مصالح أو درء مفاسد ..
كل أمة تفخر بإرهابييها وتنظر إليهم نظرة إجلال وإكبار ، فكل من يقمع الأعداء ويخيفهم ويثخن فيهم يكون محموداً في أمته وإن كان مبغوضاً مكروهاً في الأمم الأخرى .. رجل كجنكيز خان أرهب العالم كله وارتكب مجازر يندى لها الجبين يُعدّ من الشخصيات المرعبة في نظر كثير من الأمم ، ولكنه في قومه شبه إله ، بل إبن إله .. الدولة الرومانية التي استعبدت أكثر شعوب الأرض وقتلت ملايين البشر يعدها الغرب مهد حضارتهم وما زالوا يتغنون بأسماء قادتها .. أمريكا التي قتلت أكثر من مائة مليون أفريقي ومئات الملايين من سكان قارتها الأصليين وأبادت أمم بأكملها لا ترى أي غضاضة في كل هذا لأنها تعتقد أنها دفعت ثمن بناء حضارة حملت شعلة الديمقراطية للعالم ، ولما سُئلت وزيرة الخارجية الأمريكية “مادلين أولبرايت” عن نصف مليون طفل عراقي قتلهم الجيش الأمريكي قالت : “هذا رقم مقبول” ، فهي تنظر بعين المصلحة الأمريكية – الصهيونية كونها يهودية في المقام الأوّل تريد تأجيل خراب الدولة اليهودية على أيديد العراقيين بقتل أكبر عدد منهم ، والدول الغربية والشرقية ما صنعت هذه القنابل الفتاكة إلا لإرهاب أعداءها ..
يحتاج الإرهاب إلى نوع خاص من البشر ، نوع يؤمن بقضية إيماناً راسخاً ، ويعلم حقيقة النفس البشرية ، وطبيعة الجماعات ، ويزن بميزان المصلحة لا العاطفة ، فالقتل المجرّد ليس إرهاباً ما لم يؤدي غرض التخويف ويحقق أهدافاً معينة ، فبعض الجماعات تُستثار بالقتل ولا تستسلم للخوف ، وبعضها تستسلم للإحسان أكثر من الإرهاب ، وبعضها متضلّعة في اللؤم لا تُحكم إلا بالإرهاب : كاليهود ، والرافضة ، والمجوس والعلمانيين وأمثالهم ، فهؤلاء لا يُحكمون إلا بالقوة ، ومتى رُفع عنهم سيف الإرهاب : مكروا وغدروا ..
مَن قلّب التأريخ الإسلامي يجد في صفحاته إرهابياً يُشير إليه الإرهابيون بالبنان ، ويقرّون له بالسيادة ويستسلمون بالإذعان : إنه سيف الله أبي سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي العدناني – رضي الله عنه وأرضاه – مدمّر جيوش الردّة والمجوس والرومان ، هذا الصحابي الجليل بحق “جنرال” الإرهاب الإسلامي بلا منازع (ان استثنينا المنصور بالرعب مسيرة شهر ، صلى الله عليه وسلم) ، فخالد كان استاذاً في فن الإرهاب لا يجارى ولا يُبارى ولا يُنازع ، وجولة سريعة في حياة هذا العبقري الفذّ تعطينا صورة جليّة لشخصية فريدة قلما تتكرر في حياة الأمم ..
لم يكن خالداً من أصحاب الضغوطات النفسية ولا ضحية البؤس الإجتماعي ، بل كان ابن الوليد بن المغيرة عظيم قريش وسيّد من ساداتها الذي بلغ من الجاه أن يكسو الكعبة عاماً وتكسوه قريشٌ كلها عاما ، فخالد نشأ في بيئة بذخ وترف وسؤدد لم يعرف الفقر ولا الجوع والضنك .. نشأ خالد فارساً مقاتلاً شجاعاً قوي البنية حاد الذكاء عاقلاً هادئ الطبع رابط الجأش متواضع رغم منزلته الإجتماعية بين العرب ، فكان في شبابه قائداً لأعنّة خيل قريش – مع وجود الصناديد والشيوخ – لما عَرفت عنه قريش من فروسية ونظرة ثاقبة ودهاء ..
كانت حربه الأولى مع المسلمين في أُحد ، وكان سبب هزيمة المسلمين ببرود أعصابه وصبره وثباته وهو على الخيالة يرى قومه يَتخطّفهم المسلمون فلم يدخل المعركة حتى بعد انتهاءها وهزيمة قريش !! وقف ينظر إلى الفريقين ، وقريش ترمقه وهي هاربة لا تلوي على شيء وتتسائل عن سبب عدم مشاركته بخيله في الحرب ؟! كان خالد ينتظر الوقت المناسب ، والظرف المناسب والمكان والزمان المناسبين ، لم يكن ليخاطر برجاله وخيله في هجمة خاسرة ، فلما رأى نزول الرماة من الجبل ، التفّ حول المسلمين فأتاهم من الخلف وأعمل فيهم سيفه فرجعت قريش وكرّت على المسلمين فكانت الهزيمة ..
شارك في الخندق ولم يكن قتال ، ثم كان في طليعة الخيالة الذين منعوا المسلمين دخول مكة قبل صلح الحديبية ، ثم أسلم خالداً سنة ثمان للهجرة ، وجعله الرسول صلى الله عليه وسلم على جناح المسلمين في فتح مكة في نفس السنة ، فكان القتال في الجانب الذي فيه خالد ، فأنام المعارضين وفُتحت مكة .. ثم كانت أمور ومناوشات ووقعت حادثة “بنو جذيمة” الذين نادى مناديهم : “يا قوم : إنه خالد ، وإنه ليس بعد الأسر إلا القتل” ، فكان القوم يعرفون خالداً وشدته على أعداءه ، فقتلهم خالدٌ خطأً ، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ، وفداهم بالمال ..
عن قتادة أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعث خالداً إلى العُزَّى ، وكانت لهوازن ، وسدنتُها بنو سُلَيْم ، فقال : انطلِق ، فإنه يخرج عليك امرأةٌ شديدةُ السواد طويلةُ الشعر ، عظيمة الثديين ، قصيرةٌ . فقالوا يُحرضونها :
يا عُزَّ شُدِّي شدةً لا سواكِها … على خالد ألقي الخِمَارَ وَشمِّري
فإنَّك إن لا تَقْتُلي المرءَ خَالِداً … تَبُوئي بذَنْبٍ عاجِلٍ وتَقُصِّري
فشدّ عليها خالد ، فقتلها ، وقال : ذهبت العُزَّى فلا عُزى بعد اليوم . (انتهى) ، قتل خالد ما مضى من شركه وكفره بسيف الإيمان ليُعلن للعرب بأن الإسلام قادم ، ولا مكان لعقيدة غير عقيدة الإسلام ..
ثم كانت مؤتة ، وقُتل القادة الثلاثة ، وأدار المسلمون رايتهم فلم يجدوا غير خالد بن الوليد قائداً يُنقذهم من الورطة التي وقعوا فيها ، فاستلم خالد الراية وحمل على الروم حملة شديدة ، ثم تراجع وموّه وأعمل الحيلة حتى انسحب بالجيش الإسلامي إلى المدينة – حفاظاً عليه في مواجهة غير متكافئة بكل المقاييس – ليحصل على وسام “سيف الله” بسبب انحيازه التكتيكي الذي أظهر به عبقريته في مواجهة أعتى امبراطورية على وجه الأرض ، فكان الإنحياز بتلك المقاييس من أعظم الإنتصارات التي سجّلها التأريخ ..
فُجع المسلمون بوفاة النبي – بأب هو وأمي ونفسي – صلى الله عليه وسلم ، وارتدّت العرب ، وأصبحت الدولة الإسلامية كالقارب الصغير في بحر متلاطم الأمواج ، وكان القبطان الصدّيق رضي الله عنه في حزم لم يُعرف عنه من قبل ، وعزم على قتال المرتدين ، وخرج بنفسه في جيش إسلامي بعد أن أنفذ بعث أسامة بن زيد ، فكان خروجه بنفسه رغم قلة العدد إرهاباً للأعراب والأعداء في جزيرة العرب ، ورجع جيش أسامة ، فاستل الصدّيق سيف الله خالداً بن الوليد ليضرب به رقاب الكفار ، وهنا بدأت قصّة الجنرال الإرهابي الحقيقية مع الإرهاب الإسلامي ..
لم يكن مثل خالد يعرف طبيعة الأعراب الذين كانوا عبدة أصنام قبل وقت قريب ولمّا يدخل الإيمان قلوبهم ، فخواء الروح هو ما عوّل عليه خالد في حربه ضد المرتدين ، فكانت جولته الأولى أن جاور بعض القبائل من طيّ فاستمهله “عدي بن حاتم” أياماً يأتيه بهم مسلمين ، فخوّفهم عدي بخالد ورغّبهم في الإسلام فرجعوا ، ثم يمّم خالدٌ بجيشه شطر “طليحة بن خويلد الأسدي” المتنبّئ ومن معه ، ففلّ جمعهم وشتّت شملهم وهرب طليحة إلى الشام لا يلوي على شيء ، وبعد هذه المعركة كتب الصدّيق رسالة إلى خالد يحدد بها ملامح الإرهاب : “ليزدك ما أنعم الله به خيرا ، واتق الله في أمرك ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، جدّ في أمرك ولا تلين ، ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكّلت به ، ومن أخذت ممن حاد الله أو ضاده ممن يرى أن في ذلك صلاحاً فاقتله” (البداية والنهاية) ، وليس مثل خالدٍ يوصى بقتل أعداء الله ورسوله ودينه .. قال ابن كثير في البداية : ” فأقام خالد ببزاخة شهرا ، يصعّد فيها ويصوّب ، ويرجع إليها في طلب الذين وصّاه بسببهم الصديق ، فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرا ، يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدّوا : فمنهم من حرقه بالنار ، ومنهم من رضخه بالحجارة ، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال ، كل هذا ليُشرّد بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب ، رضي الله عنه” (انتهى) .. فلا عزاء لدعاة السلام والحمام وأغصان الزيتون وإدارة الخد ..
اجتمع فلول جيش طليحة على امرأة يقال لها “أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة” ، وكانت من سيدات العرب ، كأمها أم قرفة ، وكان يُضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولادها وعزة قبيلتها وبيتها ، فلما اجتمعوا إليها حرّضتهم على قتال خالد وانضم إليهم آخرون من بني سليم وطيئ وهوازن وأسد ، فصاروا جيشا كثيفا ، فلما سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم ، واقتتلوا قتالاً شديدا ، وأم زمل على جمل أمها ، فهزمهم خالد ، وعقر جملها وقتلها ، وبعث بالفتح إلى الصديق ، رضي الله عنه ..
ثم طار خالد إلى البطاح حيث “مالك بن نويرة” في بني تميم ، فأسَره واستسلم من معه ، وأمر خادٌ “ضراراً” أن يضرب عنق ابن نويرة ، فجعل خالدٌ رأسه بين حجرين وجعل عليهم قدراً أكل منه تل الليلة ليسمع الأعراب بفعله فيرهبهم ، واشترى خالد زوجة مالك من السّبي وبنى بها بعد أن حلّت ، وكان نقاش بينه وبين أبي قتادة في قتل مالك وأصحابه ، ثم نقاش مع الفاروق عمر بعد ان استُدعي خالداً إلى المدينة ، فأطلق الصدّيق قالته المشهورة في خالد : “لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكفار” ، فرغم هذا التصرّف العنيف من خالد ، ورغم الشك في ردّة قوم مالك ومالكٌ نفسه ، إلا أن الصدّيق كان يعلم بأن هذه الحرب تحتاج إلى مثل هذه الشدّة ، وإن كانت إجتهادات خاطئة هنا وهناك ، فالأمر لا يحتمل الجدال الكثير والقيل والقال في مثل هذه الظروف ..
قال ابن كثير رحمه الله : “واستمر أبو بكر بخالد على الإمرة ، وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله ، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى بني جذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين قالوا : صبأنا صبأنا . ولم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا. فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم ميلغة الكلب ، ورفع يديه وقال : “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد” . ومع هذا لم يعزل خالدا عن الإمرة” (انتهى) ففي لحظات حرجة من تاريخ الدعوة الإسلامية يكون المجال أوسع لتقبّل مثل هذه الأخطاء من قِبل من لهم نكاية بأعداء الأمة ، وتقدير مثل هذا لا يحصل إلا من أمثال الصدّيق رضي الله عنه بحكمته وعقله وعبقريته ..
هشام بن عروة : عن أبيه قال : كان في بني سليم ردَّة ، فبعث أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فجمع رجالاً منهم في الحظائر ، ثم أحرقهم ، فقال عمر لأبي بكر : أتدع رجلاً يعذِّب بعذاب الله ؟ قال : “والله لا أشِيمُ سيفاً سلَّه الله على عدوّه” ..
نظر الصدّيق إلى مرتدّة العرب ، فلم يجد أخطر من مسيلمة الحنفي النجدي الكذّاب ، فقرر أن يفلق هامته بسيف الله ، فامتطى خالد جواده وامتشق سيفه ويمم شطر نجد ليلقى الكذّاب في قومه وقد عبّأهم حسياً ومعنوياً ، وأسر جند خالد سرية من ستين مرتداً فضرب أعناقهم وأبقى قائدهم ، ثم التقى الجمعان ، وحمي الوطيس ، وقامت الحرب المجنونة ، وتنادى الأبطال ، وتتطايرت الأعناق ، وكادت الدائرة تدور على المسلمن حتى دخل الكفار خيمة خالد ، فتنادى المهاجرون والأنصار ، وتمايزت الصفوف ، وبرز أصحاب العقيدة في موقف فريد ، فحمل خالدٌ بالمسلمين حملة انغماسيّ مستميت ، ففل جمع الكفار ، وشتت شملهم ، ولجأ المرتدون إلى الحديقة مستدبرين المسلمين ، والمسلمون في حنق شديد حتى نادى سيّد الإنغماسيين البراء بن مالك : “يا معشر المسلمين ، ألقوني عليهم في الحديقة” . فاحتملوه فوق الحجف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها ، فدخلها وحده ، ولم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه ، فأغلقه المسلمون بجماجم عشرة آلاف مرتد ، وقيل واحد وعشرين ألفاً ، وقُتل من المسلمين خمسمئة من خيرة رجالهم الأبطال .. كل هذه الفتوحات كانت في سنة واحدة قَتل فها خالد آلاف المرتدين العرب ، ورجع الباقون إلى رشدهم فأسلموا وأذعنوا وأنابوا – بعد أن رأوا السيوف سلط أيدي الصحابة – فكانوا جنوداً للفتح الإسلامي القادم ..
بعد اليمامة لم تكن قوة تشكّل خطراً تستوجب بقاء خالد في جزيرة العرب ، فأمر الصدّيق خالداً أن ينطلق إلى العراق لمقارعة أرهب وأرعب امبراطورية عرفتها البشرية في ذلك الوقت ، فخرج خالد بالمسلمين إلى تخوم العراق ، وهو أول من دُفعت له الجزية في العراق ، فكتب كتاباً إلى مرازبة الفرس قال فيه : “من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فالحمد لله الذي فض خدمتكم وسلب ملككم ، ووهن كيدكم ، وإنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا ، أما بعد ، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلي بالرهن ، واعتقدوا مني الذمة ، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة” (انتهى) . فأخذ المرازبة يقرؤون هذا الكتاب ويعجبون لأعرابي من جزيرة العرب كيف يخاطبهم بمثل هذا وهم سادة الدنيا !! ومن أراد أن يعرف غرابة الموقف فليتصوّر قائد فصيل مجاهد يكتب هذه الرسالة لأمريكا وهو قصد كل كلمة فيها ..
جمع المجوسيّ الخبيث “هرمز” جيشاً للقاء المسلمين في كاظمة (الكويت اليوم) ، فكانت المواجهة مع سيف الله خالد بن الوليد ، وكان المجوسي يضمر غدراً – على عادة المجوس – فتبارز مع خالد بين الصفّين وأسرّ لسريّة له أن تهجم على خالد وقت المبارزة ، فلم يُمهله خالد حتى قتله ، وأتت المفرزة الفارسية تسبق الريح ليخرج لها صقرٌ من صقور الإسلام يتخطّفهم كالطير فينيمهم ، فنعم الصقر “القعقاع بن عمر التميمي” الذي يستحق بكل جدارة لقب “قائد القوات الخاصة” الإسلامية ، وصدق الصدّيق : “لا يُهزم جيش فيه القعقاع وخالد” ، كيف يُهزم و”صوت القعقاع في المعركة بألف فارس” ، ثم انعطف جنود التوحيد على عُبّاد النار يعملون فيهم السيف ، ويرسلونهم إلى جهنّم زُمرا ..
التقى خالدٌ – بعدها – بالفرس في المذار ، فاستباح دمائهم وأصاب الفرس الدمار ، فقتل المسلمون منهم ثلاثين ألفاً أو يزيدون ، وغرق غيرهم في النهر ، وتشتت جموع المجوس وقُتل قادتهم ودارت الدائرة عليهم بحمد الله ومنّته ..
جُنّ جنون “أردشير” ملك الفرس ، فأرسل جيشاً بقيادة أحد قادته الشجعان يقال له “الأندرزغر” وأمدّه بـ “بهمن جاذويه” ، فسارا إلى الولجة ، فقصدهم خالدٌ بالمجاهدين ، ووضع الكمائن خلف المجوس ، فالتقى الجمعان ، واستبسل المسلمون فتمكنوا من رقاب الفرس وظهورهم ، وخرج الكمينان ، فأُسقط بأيدي المجوس ، وتلقّفهم أهل الجهاد قتلاً وتشريداً حتى مات قائدهم عطشا .. عن الشعبي قال : “بارز خالدٌ يوم الولجة رجلاً من الأعاجم يُعدل بألف رجل ، فقتله ، ثم اتكأ عليه وأتي بغدائه فأكله وهو متكئ عليه . يعني بين الصفين” ، لله در أبا سليمان رضي الله عنه وأرضاه ما أرهبه لأعداء الله وما أرعبه ..
كانت الولجة في صفر ، وفي ذات الشهر اجتمع نصارى العرب الذين وترهم خالد في الولجة ، فكاتبوا الأعاجم ، واجتمعوا بألّيْس ، فجاءهم خالد على حين غرّة وقد أعدّوا طعاماً ، فنادى خالد بين الصفين بأسماء بعض شجعانهم ، فبرز له بعضهم فقتله ، ثم حمل القوم على المسلمين ، وكان قتالاً شديداً لم يُر مثله حتى قال خالد : “اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحداً أقدر عليه حتى أُجري نهرهم بدمائهم” ، فمكّنه المولى منهم ، ونادى منادي خالد : “الأسر ، الأسر” ، فأقبلت الخيول بهم أفواجا يساقون كالنّعاج ، وقد وكل بهم رجالاً يضربون أعناقهم في النهر ، ففعل ذلك بهم خالد يوماً وليلة ، ويطلبهم في الغد ومن بعد الغد ، وكلما حضر فوج أحد ضربت أعناقه في النهر ، وقد صرف ماء النهر إلى موضع آخر ، فقال له بعض الأمراء : “إن النهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدم فيجري معه ، فتبر يمينك” !! فأرسله ، فسال النهر دماً عبيطا ، فلذلك سمي نهر الدم إلى اليوم ، وبلغ عدد القتلى المجوس سبعين ألفا ، وكان الطعام الذي أعده الكفار نفلاً ، فأكله المسلمون ..
لما وصلت الغنائم والسبي إلى الصديق بعد هذه المعركة ، نادى في المدينة : “يا معشر قريش ، إن أسدكم قد عدا على الأسد ، فغلبه على خراذيله ، عجزت النساء أن تلدن مثل خالد بن الوليد” ، قال ابن كثير رحمه الله : “ثم جرت أمور طويلة لخالد في أماكن متعددة يُمل سماعها ، وهو مع ذلك لا يكل ولا يمل ولا يهن ولا يحزن ، بل كل ما له في قوة وصرامة وشدة وشهامة ، ومثل هذا إنما خلقه الله – عز وجل – عزاً للإسلام وأهله ، وذلاً للكفر وشتات شمله” (انتهى) ، رحم الله ابن كثير لو استعمل كلمة غير “يُملّ” ، فمن يمل من سماع فتوحات سيف الله وينهل من عبقريته !!
ثم نزل خالد الخورنق والسدير والنجف ، وبث سراياه يحاصرون الحصون من الحيرة ، ويستنزلون أهلها قسراً وقهرا ، وصلحاً ويسرا ، فأتته وفود عرب تلك النواحي تطلب الصلح بعدما رأوا من شدته وبـأسه وفتكه بالفرس وعملائهم العرب ، فخلع الله قلوبهم وأنزل الرعب فيها ، قال سيف : ” وقد أقام خالد هنالك بعد صلح الحيرة سنة يتردد في بلاد فارس ها هنا وها هنا، ويوقع بأهلها من البأس الشديد ، والسطوة الباهرة ، ما يبهر الأبصار لمن شاهد ذلك ، ويشنف أسماع من بلغه ذلك ، ويحيّر العقول لمن تدبره” (انتهى). هذه النّجف التي طهّرها خالد بسيوف التوحيد لتصير الآن بلاد شرك يدنّسها المجوس الجدد ، فنسأل الله أن يعيدها إلى حضيرة الإسلام بفتح جديد على أيدي جنود العقيدة ..
ثم ركب خالد في جيوشه ، فسار حتى انتهى إلى الأنبار وعليها رجل من أعقل الفرس وأسْودهم في أنفسهم ، يقال له “شيرزاذ” . فأحاط بها خالد وطلب صاحبها الصلح فاشترط خالد شروطاً لم يقبلها الفارسي ، فردم خالد الخندق ، فلما رأى الفارسي قرب حتفه أجاب خالداً رغم أنفه ، ففتح خالد الأنبار ، واستناب عليها الزبرقان بن بدر ، وقصد خالد عين التمر وبها “مهران بن بهرام” ، وعنده بعض العرب الذين تقدموا لقتال المسلمين دون الفرس المجوس ، وهذا حال الحمقى من العرب في كل زمان ، وانظر إلى قول قائد الفرس لأصحابه لتعلم أن استغلال الفرس للعرب قديم ، قال الفارسي بعد أن اعترض عليه قومه : “ دعوهم ، فإن غلبوا خالداً فهو لكم ، وإن غُلبوا قاتلنا خالداً وقد ضعفوا ونحن أقوياء” . فاعترفوا له بفضل الرأي عليهم ، ونحن نعترف بحمق هؤلاء العرب وغبائهم ، ونقول للمجوسي : كذبت عدو الله ، فإن أهل الإسلام لا يضفون عن قتل أعداء الله ، كيف وفيهم سيف الله ..
كان قائد العرب يدعى “عقّه” ، فأسَره خالد وهرب قومه ، فتتبعهم المسلمون بالأسر ، وهرب الفرس بعد علمهم بهزيمة العرب بهذه السرعة ، ونسوا قالة قائدهم ونسي هو عجرفته قبل قليل ، فدخلت الفلول حصناً ، وطلبوا الصلح من خالد فاشترط أن ينزلوا على حكمه ففعلوا فأمر خالد بقتل عقّة ومن أُسر وجميع من نزل على حكمه ، رضي الله عنه وأرضاه ..
وفي هذه الأثناء : أرسل عياض بن غنم رسالة إلى خالد يطلب المدد في دومة الجندل ، وكان عياض قد خرج مع خالد إلى العراق ، ولكن الفرس أحاطوا بجنوده وحاصروه حتى هذا الوقت ، فكتب خالد أقصر رسالة عسكرية عرفها التأريخ : “من خالد إلى عياض ، إياك أُريد” ، وزاد بعضهم : “لبّث قليلا تأتك الحلائب … يحملن آساداً عليها القآشب … كتائب تتبعها كتائب” .. هي الحرب لا تحتاج كثير كلام ، وهي الأفعال تنطق عن أصحابها .. رغم المنافسة الكبيرة بين خالد وعياض على الفتوحات ، إلا أن عياض طلب المدد من خالد لما أُحيط به وعلم أنه محتاج إلى من يخلصه ..
لما سمع أهل دومة الجندل بمسير خالد إليهم ، بعثوا إلى أحزابهم يطلبون المدد ، وكان فيهم أكيدر بن عبد الملك فقال لهم : “أنا أعلم الناس بخالد ، لا أحد أيمن طائراً منه في حرب ولا أحدّ منه ، ولا يَرى وجه خالد قوم أبدا – قلّوا أم كثروا – إلا انهزموا عنه ، فأطيعوني وصالحوا القوم” ، فأبوا عليه ، فقال : “لن أمالئكم على حرب خالد” . وفارقهم ، فقبض عليه جند خالد فضرب خالد عنقه لوم ينفعه كلامه الذي سبق فعله .. بلفتة عبقرية خالدية : حصر خالد جميع الأعداء بينه وبين جيش عياض ، فأعلموا فيهم قتلاً وأسراً ، فدخلوا الحصن فقتل المسلمون من هم خارجه ثم اقتلعوا باب الحصن واقتحموه وقتلوا المقاتلة وسبوا الذراري واقتسموهم واشترى خالد ابنة الجودي الموصوفة بالجمال ورجع إلى الحيرة ..
اجتمعت بعض الفلول ، واجتمع معهم النصارى والعرب والفرس وقصدوا انتزاع الأنبار – وما أشبه اليوم بالبارحة – فاستنجد قائدها بالقعقاع : ففل جمعهم في “الحصيد” وحصدهم حصدا ، وهرب الباقية إلى “المصيخ” فتلقاهم خالد بجيشه وأغار عليهم وهم نائمون فأنامهم النومة الكبرى ، وقُتل في هذه المعركة رجلان كانا قد اسلما ومعهما رسالة من الصدّيق فتكلم عمر بن الخطاب في خالد بسببهما ، كما تكلم فيه بسبب مالك بن نويرة ، فقال له الصديق : “كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم” قال ابن كثير : “أي : الذنب لهما في مجاورتهما المشركين . وهذا كما في الحديث : “أنا بريء من كل من ساكن المشرك في داره” . وفي الحديث الآخر : “لا تتراءى نارهما” ، أي لا يجتمع المسلمون والمشركون في محلّة واحدة” (انتهى) ..
ثم كانت وقعة الثني والزميل، وقد بيّتوهم ، فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم عن بكرة أبيهم ، فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث مخبر ، ثم بعث خالد بالخُمس من الأموال والسبي إلى الصديق ، وقد اشترى علي بن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب ، وهي ابنة ربيعة بن بجير التغلبي ، فاستولدها عمر ورقية رضي الله عنهم أجمعين.
ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى “الفِراض” ، وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة (هي اليوم بين حديثة والبوكمال) ، فأقام هنالك شهر رمضان مفطرا : لشغله بالأعداء ، ولما بلغ الروم أمر خالد ومصيره إلى قرب بلادهم ، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة في تحالف دولي شمل الفرس (أعدائهم) ومواليهم من عرب تغلب وإياد والنمر ، فناهدوا خالداً بجيش التحالف الدولي ، وحالت الفرات بينهم ، فقالت الروم (وهي قائدة التحالف الدولي) لخالد : اعبر إلينا . وقال خالد للروم : بل اعبروا أنتم . فعبرت الروم إليهم ، فاقتتلوا هنالك قتالا عظيماً بليغا ، ثم هزم اللهُ جموع التحالف ، وتمكن المسلمون من أقفائهم ، فقُتل في هذه المعركة مائة ألف ، وأنشد القعقاع بن عمرو :
لقينا بالفِراض جموع رومٍ … وفرسٍ غمّها طول السلامِ
أبدنا جمعهم لمّا التقينا … وبيَّتنا بجمع بني رزامِ
فما فتِئَت جنود السِّلم حتى … رأينا القومَ كالغنمِ السِّوامِ
وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرة أيام ، ثم انسلّ عن جيشه واعتمر ، فبعث الصدّيق يعتب عليه مفارقته الجيش ، ومما قال : “وإن الجموع لم تشج بعون الله شجيك ، فليهنك أبا سليمان النية والحظوة ، فأتمم يتمم الله لك ، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتخذل ، وإياك أن تدلّ بعمل ، فإن الله له المنّ ، وهو وليّ الجزاء” . فرضِي الله عن الصدّيق وخالد ..
هذا بعض ما كان من خالد في العراق ، وأما حال الشام : فلما قدمت جيوش الإسلام خافت الروم ، وأرسلت إلى هرقل بحمص ، فامر بخروج الجيوش الرومية صحبة الأمراء : في مقابلة كل أمير من المسلمين جيش كثيف ، وأعلنت الروم في وسائل إعلامها بغطرستها المعهودة : “والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا” ..
جميع عساكر المسلمين في الشام أحد وعشرون ألفا سوى الجيش الذي مع عكرمة ، وكان واقفا في طرف الشام ردءاً للناس في ستة آلاف ، فكتب الأمراء إلى أبي بكر يعلمونه بما وقع من الأمر العظيم ، فنظر الصدّيق يمنة ويسرة ويمم بصره شطر الثغور من يرسل للشام مدداً للمجاهدين ، وما هي إلا لحظات حتى فتح الله عليه ، فأطلقها مدوية : “والله لأُشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد” ..
بعث الصدّيق إلى خالد وهو بالعراق ليقدم إلى الشام .. قال سيف : فسارت الروم فنزلوا الواقوصة قريباً من اليرموك ، وصار الوادي خندقا عليهم ، فاستناب خالد المثنى بن حارثة على العراق ، وسار مسرعا في تسعة آلاف وسلك بهم أراضي لم يسلكها قبله أحد ، وأصاب جيشه الجهد حتى وصل الشام في خمسة أيام ، ولم يُمهل جيشه العراقي الذي أخذ على الفتوحات ، ففتحَ بُصرى صلحاً بعد أن علم صاحبها أن القائد خالد ، فكانت أول مدينة تُفتح في الشام ..
قال سيف بن عمر : “ووجد خالد الجيوش متفرقة … فقام في الناس خطيباً ، فأمرهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف ، فاجتمع الناس وتصافوا مع عدوهم” (انتهى مختصرا) ، فليت قومي يعلمون كيف تُدار الحروب ، وكيف تُواجَه الجموع المجتمعة على حرب الإسلام ، فهذا أمين هذه الأمة ، وهو خير من خالد بلا خلاف ، ومع ذلك أقرَّ خالداً على القيادة ، وهذا يزيد بن بن أبي سفيان صاحب السابقة ، ومعهم شرحبيل وعمرو الداهية ، كلهم آثروا مصلحة الإسلام ، واتفقوا على رأي واحد ، وعلى رجل واحد هو أعلمهم بالحرب وأشدهم نكاية في عدوّ ، مع أنه أتاهم مدداً ولم يُعيَّن من قبل الخليفة قائدا ..
اجتمع الأبطال ، وتكلم البلغاء ، وقام في الناس أشرافهم يستثيرون فيهم العقيدة والإيمان ، وعلت أصوات آي القرآن ، وأقبلت الروم في خيلائها وفخرها وقد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها يصيحون بأصوات مرتفعة في محالوة بائسة للتأثير على عزيمة المسلمين ، ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال كما يفعل إعلامهم اليوم ، فالتقى عباد الرحمن بعبّاد الصُّلبان ، وصال وجال الفرسان ، واشتاق المؤمنون للجنان والحور الحسان ، وخالد يأمر الرجال ويوجّه الأبطال ويحض على النزال ، وجيش المسلمين من سادات العرب وخيار قبائلها فيهم ألف صحابي ، وتبايع الشجعان على الموت ، ونزلت الروم على المسلمين كالجبال فاخترقوا الصفوف ، فثبت الرجال ، وكانت ملحمة عظيمة استبسل فيها المجاهدون أيما استبسال ، فما لبث أن أنزل الله الرعب في قلوب الكفار بسبب اقتحام الانغماسيين الصفوف يشقونها كالبرق يقتلعون الرؤوس من الأعناق ويحتضنون الموت بصدور عارية ، وخالد وإخوانه يجولون في صفوف العدو ويصولون بكرٍّ وفرٍّ فيقطفون في الجولة آلاف الرؤوس ، ثم منح اللهُ المسلمين أكتافهم فأمعنوا فيهم قتلاً وتشريداً ، وسقط عشرون ومائة ألف صليبي في الوادي فهلكوا ، وقَتل المسلمون بأسيافهم ثمانين ألفاً من أعداء الله ، فكان مجموع من قُتل من الروم في هذه المعركة – حسب بعض الروايات – مائتي ألف رومي كافر ، وقُتل في هذه المعركة الفاصلة ثلاثة آلاف من المسلمين ، فرضي الله عنهم وتقبّلهم في الشهداء ..
بينما الناس في جولة الحرب وحومة الوغى ، والأبطال يتصاولون من كل جانب ، إذ قدم البريد من الحجاز بوفاة الصدّيق رضي الله عنه ، وخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعزْل خالد وتولية أبي عبيدة رضي الله عنهما ، فأسرّها خالد ، ولم يبد ذلك للناس لئلا يحصل ضعف ووهن في تلك الحال بخبر وفاة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك القائد المحنّك لا ينشر من الأخبار في وقت المعارك إلا ما يرفع به معنويات جنوده ، فما أحوج قادة المجاهدين اليوم لهذه الحكمة الخالدية .. ثم سلّم خالد القيادة لأمين هذه الأمة – بعد المعركة – عن طيب نفس ورضى ، فصار قائد الحرب وفاتح العراق وجزيرة العرب ومدمّر امبراطورية الروم : جندياً من جنود الإسلام ، وأي جندي !!
وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر أن : أن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق ، وأنه قد استنابه على من بالشام ، وأمره أن يستشير خالداً في الحرب ، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة ، فقال له خالد : يرحمك الله ، ما منعك أن تعلمني حين جاك ؟ فقال : إني كرهت أن أكسر عليك حربك ، وما سلطان الدنيا أريد ، ولا للدنيا أعمل ، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان ، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ولا دنياه” ، رضي الله عن أمين هذه الأمة وأرضاه ما أعقله ، فهل من يقتدي أثره .
عند أحمد بسنده : “استعمل عمر بن الخطاب أبا عبيدة على الشام وعزل خالد بن الوليد ، فقال خالد : بعث عليكم أمين هذه الأمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” ، فقال أبو عبيدة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “خالد سيف من سيوف الله ، نعم فتى العشيرة” .. لله درّ صحابة رسول الله ورضي الله عنهم ، ما أعقلهم وما أخلصهم وما أزهدهم في الدنيا ومناصبها .. أين هذا من الطعن واللمز والهمز واللعن الذي نراه في الناس اليوم .. متى يقتدي المسلمون بهؤلاء العظماء وينهلوا من معين أخلاقهم ويرتفعوا بأنفسهم ليرفعهم الله كما رفع الذين من قبلهم ..
سار أبو عبيدة (قائد الجيوش الإسلامية الجديد) من مرج الصّفر قاصداً دمشق ، وجعل خالد بن الوليد في القلب ، فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي وإليه باب كيسان أيضا ، وحاصروها حصاراً شديداً سبعين ليلة ، وقيل أكثر ، واشتد البرد وعسر الحال وعسر القتال ، فقدّر الله أن وُلد لبطريق دمشق مولود في تلك الليالي ، فصنع لهم طعاماً وسقاهم بعده شرابا ، فأكلوا وسكروا وناموا واشتغلوا عن أماكنهم ، وفطن لذلك خالد بن الوليد ، فإنه كان لا ينام ، ولا يترك أحداً ينام ، بل مراصد لهم ليلاً ونهارا ، وله عيون وقصّاد يرفعون إليه أحوال المقاتلة صباحاً ومساء ، فلما رأى خمدة تلك الليلة ، وأنه لا يقاتل على السور أحد ، كان قد أعد سلاليم من حبال ، فتسللت مفرزة القوات الخاصة الإنغماسية بقيادة خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي فقتلوا من على السور وكبّروا فصعد الأبطال خلفهم وانحدرت القوات الخاصة الإنغماسية إلى البوابين فقتلوهم ، وقطعوا أغاليق الباب بالسيوف ، فدخل الجيش الخالدي من الباب الشرقي ، فثار أهل البلد بعد سماع التكبير بين أظهرهم ، ودخل خالد البلدة عنوة ، فقتل من وجده ، وعلم القوم أنه خالد ، فهرعوا إلى أبي عبيدة يرتجونه الصلح ولم يعلم أبو عبيدة ما صنع خالد ، فأجابهم للصلح ، فالتقى الجيشان وسط المدينة فقال سيف الله : إني فتحتها عنوة ، واختلف الصحابة هل هي صلح أم عنوة ، فما لبثوا أن اتفقوا – وهم في مكانهم – أن جعلوا نصفها صلحاً ونصفها عنوة ..
ثم إن أبا عبيدة بعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف ، وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتاباً ، وانصرف أبو عبيدة وخالد من وقعة فحل قاصدين حمص ، فنزلا على ذي الكلاع ، فبعث هرقل بطريقاً يقال له : “توذرا” في جيش معه . فنزل بمرج دمشق وغربيها ، وقد هجم الشتاء ، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم ، وجاء أمير آخر من الروم يقال له “شنس” ، وعسكرٌّ معه كثيف ، فنازله أبو عبيدة فاشتغلوا به عن توذرا ، فسار توذرا نحو دمشق لينازلها وينتزعها من يد يزيد بن أبي سفيان ، فكان سيف الله له راصداً وإليه قاصدا ، وبرز يزيد بن أبي سفيان للرومي من دمشق ، فاقتتلوا ، وجاء خالد وهم في المعركة فجعل يقتل الكفار من ورائهم ، ويزيد يقصل فيهم من أمامهم ، حتى أناموهم ولم يفلت منهم إلا الشارد ، وقتل خالد توذرا ، وأخذوا من الروم أموالا عظيمة فاقتسماها ، ورجع يزيد إلى دمشق وانصرف خالد إلى أبي عبيدة ، فوجده قد واقع “شنس” بمرج الروم ، فقتلهم فيه مقتلة عظيمة حتى أنتنت الأرض من زهمهم ، وقتل أبو عبيدة “شنس” ، وركبوا أكتافهم إلى حمص ، فنزل عليها يحاصرها وفتحها صلحاً بعد حصار شديد ..
ثم بعث أبو عبيدة خالداً بن الوليد إلى “قنّسرين” ، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب ، فقاتلهم خالد فيها قتالاً شديدا ، وقتل منهم خلقا كثيرا ، فأما من هناك من الروم فأبادهم ، وقتل أميرهم “ميناس” ، وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا ، فقبل منهم خالد وكف عنهم (على غير عادته رضي الله عنه) ، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه ، فقال لهم خالد : “إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا” . ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه ، ولله الحمد . فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الوقعة قال: “يرحم الله أبا بكر كان أعلم بالرجال مني ، والله إني لم أعزله عن ريبة ، ولكن خشيت أن يوكَل الناس إليه” .
ثم حصلت لخالد أمور يطول ذكرها ، وأصبح اسمه كافياً لاستسلام الجيوش والنزول تحت حكم الفاتحين ، وترك خالد ساحة المعركة لإخوانه ، واعتزل القتال بعد هذه الفتوحات ، حتى وافته المنيّة وهو على فراشه رضي الله عنه وأرضاه ، ولما حضرت خالداً الوفاة بكى ، ثم قال : “لقد حضرت كذا وكذا زحفاً ، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء” .. مات خالد بالشام ، وتشرّفت حمص – على الارجح من أقوال العلماء – باحتضان جسد سيف الله تحت ثراها ، فاضت روحه الطاهرة الوقّادة سنة إحدى وعشرين بقرية على ميل من حمص ، حمص التي دنّسها قرد من قرود الرافضة لينتقم من رجل دمّر كرسيّ إلهه كسرى وكسر دين المجوس ..
هذا هو خالد بن الوليد الذي أسلم قبل فتح مكة ليدخلها فاتحاً بعد أشهر ، والذي انكسرت في يده تسعة أسياف يوم مؤتة فلّ بها رؤوس النصارى ، وهدم بيت العُزّى : ذاك المعبد التراثي والصنم الشّركي .. هو الذي شتت شمل طليحة ، وقتل مالك بن نويرة ، وهزم مسيلمة ، وكسر كسرى ، ودّمر جيوش هرقل .. هو خالد الذي علّم الفرسان الفروسية ، وسطّر للأبطال معاني البطولة ، وبيّن للإرهابيين حقيقة الإرهاب ، “فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد ، سيف من سيوف الله، سلّه الله على الكفار والمنافقين” (أحمد) ، “وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا ، وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله” (البخاري) .. لا همّ له غير الجهاد ، ولا يعرف إلا القتال ، ولا برع إلا في ساحات النزال ، فقال : “ما ليلة تُهدى إليّ فيها عروس ، أو أبشَّر فيها بغلام ، بأحب إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبِّح بهم العدو” ..
لم هذا الإرهاب يا خالد !! لم كل هذا القتل يا خالد ؟ لم هذه المجازر يا خالد ؟ إنه الله الذي أمر خالداً وإخوانه بأمر بدأه بنبيّه معلماً طريقة الحق في مقارعة الباطل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال : 67) سنّة الأنبياء في بداية الدعوات لاستئصال شأفة الفساد وتطهير الأرض من الخلايا السرطانية فتحيى الأجيال حياة طيبة نظيفة خالية من الأمراض المستعصية ، هذه الآية وقول الله تعالى {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأنفال : 57) قاعدتان عمل بهما خالد بكل إتقان وإخلاص : فالأولى فيها استئصال شأفة الكفر من الأرض بإحداث مقتلة عظيمة تطهّر الأرض من رجس ومكر أعداء الحق فلا يرتفع للكفر رأس ، فقتل خالد في خمس سنوات قرابة النصف مليون إنسان بالسيوف والرماح والسهام ، والآية الثانية هي آية الإرهاب التي تحض على شدّة النكاية بحيث يخاف البعيد ، كما في قوله تعالى {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال : 60) ، فقطع خالد رؤوس الكفار صبراً واجرى بها نهراً وحزّ رؤوس وحرق أناس وطبخ القدر على رؤوس أناس ، لهذا كان المسلمون في المعارك يقرؤون سورة الأنفال لتقريرها حقيقة الإرهاب وبيانه وكيفية إعمال الخوف والرعب والقتل في أعداء الأمة ..
كانت عبقرية خالد تتجلى إذا عجزت العبقريات واحتار الدهاة : فهذا الداهية عمرو بن العاص يقاتل مسيلمة فيُهزم ليأتيه خالد ويقضي على عدو الله ، ووقف القائد الفذ عياض بن غنم في دومة الجندل محتاراً محاصراً وخالد يفتح البلاد تلو الأخرى حتى وصلته رسالة عياض ففك حصاره ، واحتار القادة في اليرموك أمام جموع الروم الذين تحدروا عليهم كالطوفان فأتاهم المدد العراقي في خمسة أيام ليقود خالد المعركة التأريخية بعد أن جمع القيادة بعبقريته في توافق تام .. أراد الروم الالتفاف على المسلمين وانتزاع دمشق وعليها الأمير “يزيد بن أبي سفيان” فأتاهم خالد من وراء ظهورهم وأذاقهم وبال أمرهم .. أيسمع المسلمون ؟ كان أمير دمشق في الفتح “يزيد بن أبي سفيان” ، واليوم “بشار حافظ” النصيري الكافر عدو الله ورسوله ومن أشد من مبغضي آل أبي سفيان ، فأين أبناء خالد وبني أمية ..
انتصر خالد بالرعب والإرهاب والإثخان في أعداء الله امتثالاً لأمر الله .. انتصر لأنه تواضع لله في كل موطن جهادي فرفعه الله .. انتصر لأنه يقظ القلب حاضر الحس لا ينام ولا يدع عدوّه ينام .. انتصر لأنه في كل موطن يتقدّم صفوف جيشه ويكون أوّل مبارز وأوّل قاتل .. انتصر لأنه ابن الحرب وأخو الحرب وابن عم الحرب وعاشق الحرب لا يعرف غير الحرب ولا تستكين نفسه في غير ميدانه .. انتصر لأنه كفر بالسّلمية وذبح حمامة السلام فشواها على لهيب المعركة ونهشها بأسنانه والقعقاعُ والمثنّى .. عزله عمر كي لا يُفتن الناس به فأبى الله إلا أن يُمضي سيفه .. فتح جزير العرب وكسر أعتى أمبراطويات الأرض في أربع سنين وأبو عبيدة جندي عنده ، ثم صار جندياً وأبو عبيدة قائده فلم تحدثه نفسه غير السمع والطاعة والمضي في الجهاد ، هذه هي نفسيته ، وهنا تتجلى عبقريتة ، فالمصلحة العليا فوق المصالح الشخصية ، والشرف في نيل الشهادة لا في القيادة ..
إنها حرب العقيدة .. إنه الإسلام .. إنه الإيمان .. إنه التوحيد .. لا نزعات شيطانية .. لا مآرب دنيوية .. لا وطنية .. لا قومية .. لا دولة مدنية .. لا سلمية .. لا ديمقراطية .. لا أنصاف حلول .. لا مداهنة .. لا تردد .. لا رغبة في قيادة .. لا زهوّ .. لا غرور .. لا خلافات .. لا منازعات .. لا تشاحن .. لا تباغض .. لا تحاسد .. إنها الأخلاق الإسلامية السامية .. إنها الأخوّة الإسلامية .. إنه الزهد في الدنيا .. الرغبة في ما عند الله .. البعد عن مواطن الريبة .. الجسارة .. القوة .. الشجاعة .. الحنكة .. اليقضة .. طلب الموت في سبيل الحياة الأبدية .. السموّ الفكريّ .. الإبداع العسكري .. الإنغماس الفدائي .. الإخلاص .. الإخلاص .. الإخلاص ..
لولا قصر همم القراء ، وكوننا في عصر المختصرات ، لكتبت مجلدات عن خالد وعبقريته وفتوحاته ، وما ها هنا غيض من فيض ، واختصار شديد جداً لا يليق بالإنجازات الخالدية ، ولعل الله ييسر بجمع كتاب يفي بعض حق هذا العبقري على الأمة ، فلم أجد في الكتب – رغم كثرتها – ما يشفي الغليل في سيرة هذا الرجل الفذّ ، رضي الله عنه وأرضاه ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
5 رمضان 1436هـ
يقال بأن الإرهاب وليد الظلم والاستبداد ، وأنه ردة فعل لما يصيب الإنسان من قهر ، والبعض يحيل هذا الفعل إلى عوامل نفسية في طبيعة الإنسان تخرجه من ميزان الإعتدال إلى التطرّف في لحظات ومواقف معيّنة ، وهذا كله لا قيمة له من الناحية السياسية أو الشرعية ، فالسياسة تقتضي نوعاً من الإرهاب ، والشرع أقرّ الإرهاب وحضّ عليه ، فالإرهاب عملية مكتسبة تقتضيها الظروف لا دخل لها بالعوامل النفسية وردات الأفعال ، والإرهاب بمعناه اللغوي يحوم حول التخويف وبث الرعب ، ولهذا أسباب كثيرة مشروعة وغير مشروعة ، فإرهاب العدو وتخويفه أمر محمود مشروع ، وإرهاب المسلمين الآمنين وتخويفهم مذموم ومحرّم ، فالإرهاب أداة سياسية وشرعية لتحقيق مصالح أو درء مفاسد ..
كل أمة تفخر بإرهابييها وتنظر إليهم نظرة إجلال وإكبار ، فكل من يقمع الأعداء ويخيفهم ويثخن فيهم يكون محموداً في أمته وإن كان مبغوضاً مكروهاً في الأمم الأخرى .. رجل كجنكيز خان أرهب العالم كله وارتكب مجازر يندى لها الجبين يُعدّ من الشخصيات المرعبة في نظر كثير من الأمم ، ولكنه في قومه شبه إله ، بل إبن إله .. الدولة الرومانية التي استعبدت أكثر شعوب الأرض وقتلت ملايين البشر يعدها الغرب مهد حضارتهم وما زالوا يتغنون بأسماء قادتها .. أمريكا التي قتلت أكثر من مائة مليون أفريقي ومئات الملايين من سكان قارتها الأصليين وأبادت أمم بأكملها لا ترى أي غضاضة في كل هذا لأنها تعتقد أنها دفعت ثمن بناء حضارة حملت شعلة الديمقراطية للعالم ، ولما سُئلت وزيرة الخارجية الأمريكية “مادلين أولبرايت” عن نصف مليون طفل عراقي قتلهم الجيش الأمريكي قالت : “هذا رقم مقبول” ، فهي تنظر بعين المصلحة الأمريكية – الصهيونية كونها يهودية في المقام الأوّل تريد تأجيل خراب الدولة اليهودية على أيديد العراقيين بقتل أكبر عدد منهم ، والدول الغربية والشرقية ما صنعت هذه القنابل الفتاكة إلا لإرهاب أعداءها ..
يحتاج الإرهاب إلى نوع خاص من البشر ، نوع يؤمن بقضية إيماناً راسخاً ، ويعلم حقيقة النفس البشرية ، وطبيعة الجماعات ، ويزن بميزان المصلحة لا العاطفة ، فالقتل المجرّد ليس إرهاباً ما لم يؤدي غرض التخويف ويحقق أهدافاً معينة ، فبعض الجماعات تُستثار بالقتل ولا تستسلم للخوف ، وبعضها تستسلم للإحسان أكثر من الإرهاب ، وبعضها متضلّعة في اللؤم لا تُحكم إلا بالإرهاب : كاليهود ، والرافضة ، والمجوس والعلمانيين وأمثالهم ، فهؤلاء لا يُحكمون إلا بالقوة ، ومتى رُفع عنهم سيف الإرهاب : مكروا وغدروا ..
مَن قلّب التأريخ الإسلامي يجد في صفحاته إرهابياً يُشير إليه الإرهابيون بالبنان ، ويقرّون له بالسيادة ويستسلمون بالإذعان : إنه سيف الله أبي سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي العدناني – رضي الله عنه وأرضاه – مدمّر جيوش الردّة والمجوس والرومان ، هذا الصحابي الجليل بحق “جنرال” الإرهاب الإسلامي بلا منازع (ان استثنينا المنصور بالرعب مسيرة شهر ، صلى الله عليه وسلم) ، فخالد كان استاذاً في فن الإرهاب لا يجارى ولا يُبارى ولا يُنازع ، وجولة سريعة في حياة هذا العبقري الفذّ تعطينا صورة جليّة لشخصية فريدة قلما تتكرر في حياة الأمم ..
لم يكن خالداً من أصحاب الضغوطات النفسية ولا ضحية البؤس الإجتماعي ، بل كان ابن الوليد بن المغيرة عظيم قريش وسيّد من ساداتها الذي بلغ من الجاه أن يكسو الكعبة عاماً وتكسوه قريشٌ كلها عاما ، فخالد نشأ في بيئة بذخ وترف وسؤدد لم يعرف الفقر ولا الجوع والضنك .. نشأ خالد فارساً مقاتلاً شجاعاً قوي البنية حاد الذكاء عاقلاً هادئ الطبع رابط الجأش متواضع رغم منزلته الإجتماعية بين العرب ، فكان في شبابه قائداً لأعنّة خيل قريش – مع وجود الصناديد والشيوخ – لما عَرفت عنه قريش من فروسية ونظرة ثاقبة ودهاء ..
كانت حربه الأولى مع المسلمين في أُحد ، وكان سبب هزيمة المسلمين ببرود أعصابه وصبره وثباته وهو على الخيالة يرى قومه يَتخطّفهم المسلمون فلم يدخل المعركة حتى بعد انتهاءها وهزيمة قريش !! وقف ينظر إلى الفريقين ، وقريش ترمقه وهي هاربة لا تلوي على شيء وتتسائل عن سبب عدم مشاركته بخيله في الحرب ؟! كان خالد ينتظر الوقت المناسب ، والظرف المناسب والمكان والزمان المناسبين ، لم يكن ليخاطر برجاله وخيله في هجمة خاسرة ، فلما رأى نزول الرماة من الجبل ، التفّ حول المسلمين فأتاهم من الخلف وأعمل فيهم سيفه فرجعت قريش وكرّت على المسلمين فكانت الهزيمة ..
شارك في الخندق ولم يكن قتال ، ثم كان في طليعة الخيالة الذين منعوا المسلمين دخول مكة قبل صلح الحديبية ، ثم أسلم خالداً سنة ثمان للهجرة ، وجعله الرسول صلى الله عليه وسلم على جناح المسلمين في فتح مكة في نفس السنة ، فكان القتال في الجانب الذي فيه خالد ، فأنام المعارضين وفُتحت مكة .. ثم كانت أمور ومناوشات ووقعت حادثة “بنو جذيمة” الذين نادى مناديهم : “يا قوم : إنه خالد ، وإنه ليس بعد الأسر إلا القتل” ، فكان القوم يعرفون خالداً وشدته على أعداءه ، فقتلهم خالدٌ خطأً ، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ، وفداهم بالمال ..
عن قتادة أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعث خالداً إلى العُزَّى ، وكانت لهوازن ، وسدنتُها بنو سُلَيْم ، فقال : انطلِق ، فإنه يخرج عليك امرأةٌ شديدةُ السواد طويلةُ الشعر ، عظيمة الثديين ، قصيرةٌ . فقالوا يُحرضونها :
يا عُزَّ شُدِّي شدةً لا سواكِها … على خالد ألقي الخِمَارَ وَشمِّري
فإنَّك إن لا تَقْتُلي المرءَ خَالِداً … تَبُوئي بذَنْبٍ عاجِلٍ وتَقُصِّري
فشدّ عليها خالد ، فقتلها ، وقال : ذهبت العُزَّى فلا عُزى بعد اليوم . (انتهى) ، قتل خالد ما مضى من شركه وكفره بسيف الإيمان ليُعلن للعرب بأن الإسلام قادم ، ولا مكان لعقيدة غير عقيدة الإسلام ..
ثم كانت مؤتة ، وقُتل القادة الثلاثة ، وأدار المسلمون رايتهم فلم يجدوا غير خالد بن الوليد قائداً يُنقذهم من الورطة التي وقعوا فيها ، فاستلم خالد الراية وحمل على الروم حملة شديدة ، ثم تراجع وموّه وأعمل الحيلة حتى انسحب بالجيش الإسلامي إلى المدينة – حفاظاً عليه في مواجهة غير متكافئة بكل المقاييس – ليحصل على وسام “سيف الله” بسبب انحيازه التكتيكي الذي أظهر به عبقريته في مواجهة أعتى امبراطورية على وجه الأرض ، فكان الإنحياز بتلك المقاييس من أعظم الإنتصارات التي سجّلها التأريخ ..
فُجع المسلمون بوفاة النبي – بأب هو وأمي ونفسي – صلى الله عليه وسلم ، وارتدّت العرب ، وأصبحت الدولة الإسلامية كالقارب الصغير في بحر متلاطم الأمواج ، وكان القبطان الصدّيق رضي الله عنه في حزم لم يُعرف عنه من قبل ، وعزم على قتال المرتدين ، وخرج بنفسه في جيش إسلامي بعد أن أنفذ بعث أسامة بن زيد ، فكان خروجه بنفسه رغم قلة العدد إرهاباً للأعراب والأعداء في جزيرة العرب ، ورجع جيش أسامة ، فاستل الصدّيق سيف الله خالداً بن الوليد ليضرب به رقاب الكفار ، وهنا بدأت قصّة الجنرال الإرهابي الحقيقية مع الإرهاب الإسلامي ..
لم يكن مثل خالد يعرف طبيعة الأعراب الذين كانوا عبدة أصنام قبل وقت قريب ولمّا يدخل الإيمان قلوبهم ، فخواء الروح هو ما عوّل عليه خالد في حربه ضد المرتدين ، فكانت جولته الأولى أن جاور بعض القبائل من طيّ فاستمهله “عدي بن حاتم” أياماً يأتيه بهم مسلمين ، فخوّفهم عدي بخالد ورغّبهم في الإسلام فرجعوا ، ثم يمّم خالدٌ بجيشه شطر “طليحة بن خويلد الأسدي” المتنبّئ ومن معه ، ففلّ جمعهم وشتّت شملهم وهرب طليحة إلى الشام لا يلوي على شيء ، وبعد هذه المعركة كتب الصدّيق رسالة إلى خالد يحدد بها ملامح الإرهاب : “ليزدك ما أنعم الله به خيرا ، واتق الله في أمرك ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، جدّ في أمرك ولا تلين ، ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكّلت به ، ومن أخذت ممن حاد الله أو ضاده ممن يرى أن في ذلك صلاحاً فاقتله” (البداية والنهاية) ، وليس مثل خالدٍ يوصى بقتل أعداء الله ورسوله ودينه .. قال ابن كثير في البداية : ” فأقام خالد ببزاخة شهرا ، يصعّد فيها ويصوّب ، ويرجع إليها في طلب الذين وصّاه بسببهم الصديق ، فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرا ، يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدّوا : فمنهم من حرقه بالنار ، ومنهم من رضخه بالحجارة ، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال ، كل هذا ليُشرّد بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب ، رضي الله عنه” (انتهى) .. فلا عزاء لدعاة السلام والحمام وأغصان الزيتون وإدارة الخد ..
اجتمع فلول جيش طليحة على امرأة يقال لها “أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة” ، وكانت من سيدات العرب ، كأمها أم قرفة ، وكان يُضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولادها وعزة قبيلتها وبيتها ، فلما اجتمعوا إليها حرّضتهم على قتال خالد وانضم إليهم آخرون من بني سليم وطيئ وهوازن وأسد ، فصاروا جيشا كثيفا ، فلما سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم ، واقتتلوا قتالاً شديدا ، وأم زمل على جمل أمها ، فهزمهم خالد ، وعقر جملها وقتلها ، وبعث بالفتح إلى الصديق ، رضي الله عنه ..
ثم طار خالد إلى البطاح حيث “مالك بن نويرة” في بني تميم ، فأسَره واستسلم من معه ، وأمر خادٌ “ضراراً” أن يضرب عنق ابن نويرة ، فجعل خالدٌ رأسه بين حجرين وجعل عليهم قدراً أكل منه تل الليلة ليسمع الأعراب بفعله فيرهبهم ، واشترى خالد زوجة مالك من السّبي وبنى بها بعد أن حلّت ، وكان نقاش بينه وبين أبي قتادة في قتل مالك وأصحابه ، ثم نقاش مع الفاروق عمر بعد ان استُدعي خالداً إلى المدينة ، فأطلق الصدّيق قالته المشهورة في خالد : “لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكفار” ، فرغم هذا التصرّف العنيف من خالد ، ورغم الشك في ردّة قوم مالك ومالكٌ نفسه ، إلا أن الصدّيق كان يعلم بأن هذه الحرب تحتاج إلى مثل هذه الشدّة ، وإن كانت إجتهادات خاطئة هنا وهناك ، فالأمر لا يحتمل الجدال الكثير والقيل والقال في مثل هذه الظروف ..
قال ابن كثير رحمه الله : “واستمر أبو بكر بخالد على الإمرة ، وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله ، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى بني جذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين قالوا : صبأنا صبأنا . ولم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا. فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم ميلغة الكلب ، ورفع يديه وقال : “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد” . ومع هذا لم يعزل خالدا عن الإمرة” (انتهى) ففي لحظات حرجة من تاريخ الدعوة الإسلامية يكون المجال أوسع لتقبّل مثل هذه الأخطاء من قِبل من لهم نكاية بأعداء الأمة ، وتقدير مثل هذا لا يحصل إلا من أمثال الصدّيق رضي الله عنه بحكمته وعقله وعبقريته ..
هشام بن عروة : عن أبيه قال : كان في بني سليم ردَّة ، فبعث أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فجمع رجالاً منهم في الحظائر ، ثم أحرقهم ، فقال عمر لأبي بكر : أتدع رجلاً يعذِّب بعذاب الله ؟ قال : “والله لا أشِيمُ سيفاً سلَّه الله على عدوّه” ..
نظر الصدّيق إلى مرتدّة العرب ، فلم يجد أخطر من مسيلمة الحنفي النجدي الكذّاب ، فقرر أن يفلق هامته بسيف الله ، فامتطى خالد جواده وامتشق سيفه ويمم شطر نجد ليلقى الكذّاب في قومه وقد عبّأهم حسياً ومعنوياً ، وأسر جند خالد سرية من ستين مرتداً فضرب أعناقهم وأبقى قائدهم ، ثم التقى الجمعان ، وحمي الوطيس ، وقامت الحرب المجنونة ، وتنادى الأبطال ، وتتطايرت الأعناق ، وكادت الدائرة تدور على المسلمن حتى دخل الكفار خيمة خالد ، فتنادى المهاجرون والأنصار ، وتمايزت الصفوف ، وبرز أصحاب العقيدة في موقف فريد ، فحمل خالدٌ بالمسلمين حملة انغماسيّ مستميت ، ففل جمع الكفار ، وشتت شملهم ، ولجأ المرتدون إلى الحديقة مستدبرين المسلمين ، والمسلمون في حنق شديد حتى نادى سيّد الإنغماسيين البراء بن مالك : “يا معشر المسلمين ، ألقوني عليهم في الحديقة” . فاحتملوه فوق الحجف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها ، فدخلها وحده ، ولم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه ، فأغلقه المسلمون بجماجم عشرة آلاف مرتد ، وقيل واحد وعشرين ألفاً ، وقُتل من المسلمين خمسمئة من خيرة رجالهم الأبطال .. كل هذه الفتوحات كانت في سنة واحدة قَتل فها خالد آلاف المرتدين العرب ، ورجع الباقون إلى رشدهم فأسلموا وأذعنوا وأنابوا – بعد أن رأوا السيوف سلط أيدي الصحابة – فكانوا جنوداً للفتح الإسلامي القادم ..
بعد اليمامة لم تكن قوة تشكّل خطراً تستوجب بقاء خالد في جزيرة العرب ، فأمر الصدّيق خالداً أن ينطلق إلى العراق لمقارعة أرهب وأرعب امبراطورية عرفتها البشرية في ذلك الوقت ، فخرج خالد بالمسلمين إلى تخوم العراق ، وهو أول من دُفعت له الجزية في العراق ، فكتب كتاباً إلى مرازبة الفرس قال فيه : “من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فالحمد لله الذي فض خدمتكم وسلب ملككم ، ووهن كيدكم ، وإنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا ، أما بعد ، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلي بالرهن ، واعتقدوا مني الذمة ، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة” (انتهى) . فأخذ المرازبة يقرؤون هذا الكتاب ويعجبون لأعرابي من جزيرة العرب كيف يخاطبهم بمثل هذا وهم سادة الدنيا !! ومن أراد أن يعرف غرابة الموقف فليتصوّر قائد فصيل مجاهد يكتب هذه الرسالة لأمريكا وهو قصد كل كلمة فيها ..
جمع المجوسيّ الخبيث “هرمز” جيشاً للقاء المسلمين في كاظمة (الكويت اليوم) ، فكانت المواجهة مع سيف الله خالد بن الوليد ، وكان المجوسي يضمر غدراً – على عادة المجوس – فتبارز مع خالد بين الصفّين وأسرّ لسريّة له أن تهجم على خالد وقت المبارزة ، فلم يُمهله خالد حتى قتله ، وأتت المفرزة الفارسية تسبق الريح ليخرج لها صقرٌ من صقور الإسلام يتخطّفهم كالطير فينيمهم ، فنعم الصقر “القعقاع بن عمر التميمي” الذي يستحق بكل جدارة لقب “قائد القوات الخاصة” الإسلامية ، وصدق الصدّيق : “لا يُهزم جيش فيه القعقاع وخالد” ، كيف يُهزم و”صوت القعقاع في المعركة بألف فارس” ، ثم انعطف جنود التوحيد على عُبّاد النار يعملون فيهم السيف ، ويرسلونهم إلى جهنّم زُمرا ..
التقى خالدٌ – بعدها – بالفرس في المذار ، فاستباح دمائهم وأصاب الفرس الدمار ، فقتل المسلمون منهم ثلاثين ألفاً أو يزيدون ، وغرق غيرهم في النهر ، وتشتت جموع المجوس وقُتل قادتهم ودارت الدائرة عليهم بحمد الله ومنّته ..
جُنّ جنون “أردشير” ملك الفرس ، فأرسل جيشاً بقيادة أحد قادته الشجعان يقال له “الأندرزغر” وأمدّه بـ “بهمن جاذويه” ، فسارا إلى الولجة ، فقصدهم خالدٌ بالمجاهدين ، ووضع الكمائن خلف المجوس ، فالتقى الجمعان ، واستبسل المسلمون فتمكنوا من رقاب الفرس وظهورهم ، وخرج الكمينان ، فأُسقط بأيدي المجوس ، وتلقّفهم أهل الجهاد قتلاً وتشريداً حتى مات قائدهم عطشا .. عن الشعبي قال : “بارز خالدٌ يوم الولجة رجلاً من الأعاجم يُعدل بألف رجل ، فقتله ، ثم اتكأ عليه وأتي بغدائه فأكله وهو متكئ عليه . يعني بين الصفين” ، لله در أبا سليمان رضي الله عنه وأرضاه ما أرهبه لأعداء الله وما أرعبه ..
كانت الولجة في صفر ، وفي ذات الشهر اجتمع نصارى العرب الذين وترهم خالد في الولجة ، فكاتبوا الأعاجم ، واجتمعوا بألّيْس ، فجاءهم خالد على حين غرّة وقد أعدّوا طعاماً ، فنادى خالد بين الصفين بأسماء بعض شجعانهم ، فبرز له بعضهم فقتله ، ثم حمل القوم على المسلمين ، وكان قتالاً شديداً لم يُر مثله حتى قال خالد : “اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحداً أقدر عليه حتى أُجري نهرهم بدمائهم” ، فمكّنه المولى منهم ، ونادى منادي خالد : “الأسر ، الأسر” ، فأقبلت الخيول بهم أفواجا يساقون كالنّعاج ، وقد وكل بهم رجالاً يضربون أعناقهم في النهر ، ففعل ذلك بهم خالد يوماً وليلة ، ويطلبهم في الغد ومن بعد الغد ، وكلما حضر فوج أحد ضربت أعناقه في النهر ، وقد صرف ماء النهر إلى موضع آخر ، فقال له بعض الأمراء : “إن النهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدم فيجري معه ، فتبر يمينك” !! فأرسله ، فسال النهر دماً عبيطا ، فلذلك سمي نهر الدم إلى اليوم ، وبلغ عدد القتلى المجوس سبعين ألفا ، وكان الطعام الذي أعده الكفار نفلاً ، فأكله المسلمون ..
لما وصلت الغنائم والسبي إلى الصديق بعد هذه المعركة ، نادى في المدينة : “يا معشر قريش ، إن أسدكم قد عدا على الأسد ، فغلبه على خراذيله ، عجزت النساء أن تلدن مثل خالد بن الوليد” ، قال ابن كثير رحمه الله : “ثم جرت أمور طويلة لخالد في أماكن متعددة يُمل سماعها ، وهو مع ذلك لا يكل ولا يمل ولا يهن ولا يحزن ، بل كل ما له في قوة وصرامة وشدة وشهامة ، ومثل هذا إنما خلقه الله – عز وجل – عزاً للإسلام وأهله ، وذلاً للكفر وشتات شمله” (انتهى) ، رحم الله ابن كثير لو استعمل كلمة غير “يُملّ” ، فمن يمل من سماع فتوحات سيف الله وينهل من عبقريته !!
ثم نزل خالد الخورنق والسدير والنجف ، وبث سراياه يحاصرون الحصون من الحيرة ، ويستنزلون أهلها قسراً وقهرا ، وصلحاً ويسرا ، فأتته وفود عرب تلك النواحي تطلب الصلح بعدما رأوا من شدته وبـأسه وفتكه بالفرس وعملائهم العرب ، فخلع الله قلوبهم وأنزل الرعب فيها ، قال سيف : ” وقد أقام خالد هنالك بعد صلح الحيرة سنة يتردد في بلاد فارس ها هنا وها هنا، ويوقع بأهلها من البأس الشديد ، والسطوة الباهرة ، ما يبهر الأبصار لمن شاهد ذلك ، ويشنف أسماع من بلغه ذلك ، ويحيّر العقول لمن تدبره” (انتهى). هذه النّجف التي طهّرها خالد بسيوف التوحيد لتصير الآن بلاد شرك يدنّسها المجوس الجدد ، فنسأل الله أن يعيدها إلى حضيرة الإسلام بفتح جديد على أيدي جنود العقيدة ..
ثم ركب خالد في جيوشه ، فسار حتى انتهى إلى الأنبار وعليها رجل من أعقل الفرس وأسْودهم في أنفسهم ، يقال له “شيرزاذ” . فأحاط بها خالد وطلب صاحبها الصلح فاشترط خالد شروطاً لم يقبلها الفارسي ، فردم خالد الخندق ، فلما رأى الفارسي قرب حتفه أجاب خالداً رغم أنفه ، ففتح خالد الأنبار ، واستناب عليها الزبرقان بن بدر ، وقصد خالد عين التمر وبها “مهران بن بهرام” ، وعنده بعض العرب الذين تقدموا لقتال المسلمين دون الفرس المجوس ، وهذا حال الحمقى من العرب في كل زمان ، وانظر إلى قول قائد الفرس لأصحابه لتعلم أن استغلال الفرس للعرب قديم ، قال الفارسي بعد أن اعترض عليه قومه : “ دعوهم ، فإن غلبوا خالداً فهو لكم ، وإن غُلبوا قاتلنا خالداً وقد ضعفوا ونحن أقوياء” . فاعترفوا له بفضل الرأي عليهم ، ونحن نعترف بحمق هؤلاء العرب وغبائهم ، ونقول للمجوسي : كذبت عدو الله ، فإن أهل الإسلام لا يضفون عن قتل أعداء الله ، كيف وفيهم سيف الله ..
كان قائد العرب يدعى “عقّه” ، فأسَره خالد وهرب قومه ، فتتبعهم المسلمون بالأسر ، وهرب الفرس بعد علمهم بهزيمة العرب بهذه السرعة ، ونسوا قالة قائدهم ونسي هو عجرفته قبل قليل ، فدخلت الفلول حصناً ، وطلبوا الصلح من خالد فاشترط أن ينزلوا على حكمه ففعلوا فأمر خالد بقتل عقّة ومن أُسر وجميع من نزل على حكمه ، رضي الله عنه وأرضاه ..
وفي هذه الأثناء : أرسل عياض بن غنم رسالة إلى خالد يطلب المدد في دومة الجندل ، وكان عياض قد خرج مع خالد إلى العراق ، ولكن الفرس أحاطوا بجنوده وحاصروه حتى هذا الوقت ، فكتب خالد أقصر رسالة عسكرية عرفها التأريخ : “من خالد إلى عياض ، إياك أُريد” ، وزاد بعضهم : “لبّث قليلا تأتك الحلائب … يحملن آساداً عليها القآشب … كتائب تتبعها كتائب” .. هي الحرب لا تحتاج كثير كلام ، وهي الأفعال تنطق عن أصحابها .. رغم المنافسة الكبيرة بين خالد وعياض على الفتوحات ، إلا أن عياض طلب المدد من خالد لما أُحيط به وعلم أنه محتاج إلى من يخلصه ..
لما سمع أهل دومة الجندل بمسير خالد إليهم ، بعثوا إلى أحزابهم يطلبون المدد ، وكان فيهم أكيدر بن عبد الملك فقال لهم : “أنا أعلم الناس بخالد ، لا أحد أيمن طائراً منه في حرب ولا أحدّ منه ، ولا يَرى وجه خالد قوم أبدا – قلّوا أم كثروا – إلا انهزموا عنه ، فأطيعوني وصالحوا القوم” ، فأبوا عليه ، فقال : “لن أمالئكم على حرب خالد” . وفارقهم ، فقبض عليه جند خالد فضرب خالد عنقه لوم ينفعه كلامه الذي سبق فعله .. بلفتة عبقرية خالدية : حصر خالد جميع الأعداء بينه وبين جيش عياض ، فأعلموا فيهم قتلاً وأسراً ، فدخلوا الحصن فقتل المسلمون من هم خارجه ثم اقتلعوا باب الحصن واقتحموه وقتلوا المقاتلة وسبوا الذراري واقتسموهم واشترى خالد ابنة الجودي الموصوفة بالجمال ورجع إلى الحيرة ..
اجتمعت بعض الفلول ، واجتمع معهم النصارى والعرب والفرس وقصدوا انتزاع الأنبار – وما أشبه اليوم بالبارحة – فاستنجد قائدها بالقعقاع : ففل جمعهم في “الحصيد” وحصدهم حصدا ، وهرب الباقية إلى “المصيخ” فتلقاهم خالد بجيشه وأغار عليهم وهم نائمون فأنامهم النومة الكبرى ، وقُتل في هذه المعركة رجلان كانا قد اسلما ومعهما رسالة من الصدّيق فتكلم عمر بن الخطاب في خالد بسببهما ، كما تكلم فيه بسبب مالك بن نويرة ، فقال له الصديق : “كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم” قال ابن كثير : “أي : الذنب لهما في مجاورتهما المشركين . وهذا كما في الحديث : “أنا بريء من كل من ساكن المشرك في داره” . وفي الحديث الآخر : “لا تتراءى نارهما” ، أي لا يجتمع المسلمون والمشركون في محلّة واحدة” (انتهى) ..
ثم كانت وقعة الثني والزميل، وقد بيّتوهم ، فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم عن بكرة أبيهم ، فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث مخبر ، ثم بعث خالد بالخُمس من الأموال والسبي إلى الصديق ، وقد اشترى علي بن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب ، وهي ابنة ربيعة بن بجير التغلبي ، فاستولدها عمر ورقية رضي الله عنهم أجمعين.
ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى “الفِراض” ، وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة (هي اليوم بين حديثة والبوكمال) ، فأقام هنالك شهر رمضان مفطرا : لشغله بالأعداء ، ولما بلغ الروم أمر خالد ومصيره إلى قرب بلادهم ، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة في تحالف دولي شمل الفرس (أعدائهم) ومواليهم من عرب تغلب وإياد والنمر ، فناهدوا خالداً بجيش التحالف الدولي ، وحالت الفرات بينهم ، فقالت الروم (وهي قائدة التحالف الدولي) لخالد : اعبر إلينا . وقال خالد للروم : بل اعبروا أنتم . فعبرت الروم إليهم ، فاقتتلوا هنالك قتالا عظيماً بليغا ، ثم هزم اللهُ جموع التحالف ، وتمكن المسلمون من أقفائهم ، فقُتل في هذه المعركة مائة ألف ، وأنشد القعقاع بن عمرو :
لقينا بالفِراض جموع رومٍ … وفرسٍ غمّها طول السلامِ
أبدنا جمعهم لمّا التقينا … وبيَّتنا بجمع بني رزامِ
فما فتِئَت جنود السِّلم حتى … رأينا القومَ كالغنمِ السِّوامِ
وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرة أيام ، ثم انسلّ عن جيشه واعتمر ، فبعث الصدّيق يعتب عليه مفارقته الجيش ، ومما قال : “وإن الجموع لم تشج بعون الله شجيك ، فليهنك أبا سليمان النية والحظوة ، فأتمم يتمم الله لك ، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتخذل ، وإياك أن تدلّ بعمل ، فإن الله له المنّ ، وهو وليّ الجزاء” . فرضِي الله عن الصدّيق وخالد ..
هذا بعض ما كان من خالد في العراق ، وأما حال الشام : فلما قدمت جيوش الإسلام خافت الروم ، وأرسلت إلى هرقل بحمص ، فامر بخروج الجيوش الرومية صحبة الأمراء : في مقابلة كل أمير من المسلمين جيش كثيف ، وأعلنت الروم في وسائل إعلامها بغطرستها المعهودة : “والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا” ..
جميع عساكر المسلمين في الشام أحد وعشرون ألفا سوى الجيش الذي مع عكرمة ، وكان واقفا في طرف الشام ردءاً للناس في ستة آلاف ، فكتب الأمراء إلى أبي بكر يعلمونه بما وقع من الأمر العظيم ، فنظر الصدّيق يمنة ويسرة ويمم بصره شطر الثغور من يرسل للشام مدداً للمجاهدين ، وما هي إلا لحظات حتى فتح الله عليه ، فأطلقها مدوية : “والله لأُشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد” ..
بعث الصدّيق إلى خالد وهو بالعراق ليقدم إلى الشام .. قال سيف : فسارت الروم فنزلوا الواقوصة قريباً من اليرموك ، وصار الوادي خندقا عليهم ، فاستناب خالد المثنى بن حارثة على العراق ، وسار مسرعا في تسعة آلاف وسلك بهم أراضي لم يسلكها قبله أحد ، وأصاب جيشه الجهد حتى وصل الشام في خمسة أيام ، ولم يُمهل جيشه العراقي الذي أخذ على الفتوحات ، ففتحَ بُصرى صلحاً بعد أن علم صاحبها أن القائد خالد ، فكانت أول مدينة تُفتح في الشام ..
قال سيف بن عمر : “ووجد خالد الجيوش متفرقة … فقام في الناس خطيباً ، فأمرهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف ، فاجتمع الناس وتصافوا مع عدوهم” (انتهى مختصرا) ، فليت قومي يعلمون كيف تُدار الحروب ، وكيف تُواجَه الجموع المجتمعة على حرب الإسلام ، فهذا أمين هذه الأمة ، وهو خير من خالد بلا خلاف ، ومع ذلك أقرَّ خالداً على القيادة ، وهذا يزيد بن بن أبي سفيان صاحب السابقة ، ومعهم شرحبيل وعمرو الداهية ، كلهم آثروا مصلحة الإسلام ، واتفقوا على رأي واحد ، وعلى رجل واحد هو أعلمهم بالحرب وأشدهم نكاية في عدوّ ، مع أنه أتاهم مدداً ولم يُعيَّن من قبل الخليفة قائدا ..
اجتمع الأبطال ، وتكلم البلغاء ، وقام في الناس أشرافهم يستثيرون فيهم العقيدة والإيمان ، وعلت أصوات آي القرآن ، وأقبلت الروم في خيلائها وفخرها وقد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها يصيحون بأصوات مرتفعة في محالوة بائسة للتأثير على عزيمة المسلمين ، ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال كما يفعل إعلامهم اليوم ، فالتقى عباد الرحمن بعبّاد الصُّلبان ، وصال وجال الفرسان ، واشتاق المؤمنون للجنان والحور الحسان ، وخالد يأمر الرجال ويوجّه الأبطال ويحض على النزال ، وجيش المسلمين من سادات العرب وخيار قبائلها فيهم ألف صحابي ، وتبايع الشجعان على الموت ، ونزلت الروم على المسلمين كالجبال فاخترقوا الصفوف ، فثبت الرجال ، وكانت ملحمة عظيمة استبسل فيها المجاهدون أيما استبسال ، فما لبث أن أنزل الله الرعب في قلوب الكفار بسبب اقتحام الانغماسيين الصفوف يشقونها كالبرق يقتلعون الرؤوس من الأعناق ويحتضنون الموت بصدور عارية ، وخالد وإخوانه يجولون في صفوف العدو ويصولون بكرٍّ وفرٍّ فيقطفون في الجولة آلاف الرؤوس ، ثم منح اللهُ المسلمين أكتافهم فأمعنوا فيهم قتلاً وتشريداً ، وسقط عشرون ومائة ألف صليبي في الوادي فهلكوا ، وقَتل المسلمون بأسيافهم ثمانين ألفاً من أعداء الله ، فكان مجموع من قُتل من الروم في هذه المعركة – حسب بعض الروايات – مائتي ألف رومي كافر ، وقُتل في هذه المعركة الفاصلة ثلاثة آلاف من المسلمين ، فرضي الله عنهم وتقبّلهم في الشهداء ..
بينما الناس في جولة الحرب وحومة الوغى ، والأبطال يتصاولون من كل جانب ، إذ قدم البريد من الحجاز بوفاة الصدّيق رضي الله عنه ، وخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعزْل خالد وتولية أبي عبيدة رضي الله عنهما ، فأسرّها خالد ، ولم يبد ذلك للناس لئلا يحصل ضعف ووهن في تلك الحال بخبر وفاة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك القائد المحنّك لا ينشر من الأخبار في وقت المعارك إلا ما يرفع به معنويات جنوده ، فما أحوج قادة المجاهدين اليوم لهذه الحكمة الخالدية .. ثم سلّم خالد القيادة لأمين هذه الأمة – بعد المعركة – عن طيب نفس ورضى ، فصار قائد الحرب وفاتح العراق وجزيرة العرب ومدمّر امبراطورية الروم : جندياً من جنود الإسلام ، وأي جندي !!
وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر أن : أن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق ، وأنه قد استنابه على من بالشام ، وأمره أن يستشير خالداً في الحرب ، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة ، فقال له خالد : يرحمك الله ، ما منعك أن تعلمني حين جاك ؟ فقال : إني كرهت أن أكسر عليك حربك ، وما سلطان الدنيا أريد ، ولا للدنيا أعمل ، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان ، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ولا دنياه” ، رضي الله عن أمين هذه الأمة وأرضاه ما أعقله ، فهل من يقتدي أثره .
عند أحمد بسنده : “استعمل عمر بن الخطاب أبا عبيدة على الشام وعزل خالد بن الوليد ، فقال خالد : بعث عليكم أمين هذه الأمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” ، فقال أبو عبيدة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “خالد سيف من سيوف الله ، نعم فتى العشيرة” .. لله درّ صحابة رسول الله ورضي الله عنهم ، ما أعقلهم وما أخلصهم وما أزهدهم في الدنيا ومناصبها .. أين هذا من الطعن واللمز والهمز واللعن الذي نراه في الناس اليوم .. متى يقتدي المسلمون بهؤلاء العظماء وينهلوا من معين أخلاقهم ويرتفعوا بأنفسهم ليرفعهم الله كما رفع الذين من قبلهم ..
سار أبو عبيدة (قائد الجيوش الإسلامية الجديد) من مرج الصّفر قاصداً دمشق ، وجعل خالد بن الوليد في القلب ، فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي وإليه باب كيسان أيضا ، وحاصروها حصاراً شديداً سبعين ليلة ، وقيل أكثر ، واشتد البرد وعسر الحال وعسر القتال ، فقدّر الله أن وُلد لبطريق دمشق مولود في تلك الليالي ، فصنع لهم طعاماً وسقاهم بعده شرابا ، فأكلوا وسكروا وناموا واشتغلوا عن أماكنهم ، وفطن لذلك خالد بن الوليد ، فإنه كان لا ينام ، ولا يترك أحداً ينام ، بل مراصد لهم ليلاً ونهارا ، وله عيون وقصّاد يرفعون إليه أحوال المقاتلة صباحاً ومساء ، فلما رأى خمدة تلك الليلة ، وأنه لا يقاتل على السور أحد ، كان قد أعد سلاليم من حبال ، فتسللت مفرزة القوات الخاصة الإنغماسية بقيادة خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي فقتلوا من على السور وكبّروا فصعد الأبطال خلفهم وانحدرت القوات الخاصة الإنغماسية إلى البوابين فقتلوهم ، وقطعوا أغاليق الباب بالسيوف ، فدخل الجيش الخالدي من الباب الشرقي ، فثار أهل البلد بعد سماع التكبير بين أظهرهم ، ودخل خالد البلدة عنوة ، فقتل من وجده ، وعلم القوم أنه خالد ، فهرعوا إلى أبي عبيدة يرتجونه الصلح ولم يعلم أبو عبيدة ما صنع خالد ، فأجابهم للصلح ، فالتقى الجيشان وسط المدينة فقال سيف الله : إني فتحتها عنوة ، واختلف الصحابة هل هي صلح أم عنوة ، فما لبثوا أن اتفقوا – وهم في مكانهم – أن جعلوا نصفها صلحاً ونصفها عنوة ..
ثم إن أبا عبيدة بعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف ، وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتاباً ، وانصرف أبو عبيدة وخالد من وقعة فحل قاصدين حمص ، فنزلا على ذي الكلاع ، فبعث هرقل بطريقاً يقال له : “توذرا” في جيش معه . فنزل بمرج دمشق وغربيها ، وقد هجم الشتاء ، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم ، وجاء أمير آخر من الروم يقال له “شنس” ، وعسكرٌّ معه كثيف ، فنازله أبو عبيدة فاشتغلوا به عن توذرا ، فسار توذرا نحو دمشق لينازلها وينتزعها من يد يزيد بن أبي سفيان ، فكان سيف الله له راصداً وإليه قاصدا ، وبرز يزيد بن أبي سفيان للرومي من دمشق ، فاقتتلوا ، وجاء خالد وهم في المعركة فجعل يقتل الكفار من ورائهم ، ويزيد يقصل فيهم من أمامهم ، حتى أناموهم ولم يفلت منهم إلا الشارد ، وقتل خالد توذرا ، وأخذوا من الروم أموالا عظيمة فاقتسماها ، ورجع يزيد إلى دمشق وانصرف خالد إلى أبي عبيدة ، فوجده قد واقع “شنس” بمرج الروم ، فقتلهم فيه مقتلة عظيمة حتى أنتنت الأرض من زهمهم ، وقتل أبو عبيدة “شنس” ، وركبوا أكتافهم إلى حمص ، فنزل عليها يحاصرها وفتحها صلحاً بعد حصار شديد ..
ثم بعث أبو عبيدة خالداً بن الوليد إلى “قنّسرين” ، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب ، فقاتلهم خالد فيها قتالاً شديدا ، وقتل منهم خلقا كثيرا ، فأما من هناك من الروم فأبادهم ، وقتل أميرهم “ميناس” ، وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا ، فقبل منهم خالد وكف عنهم (على غير عادته رضي الله عنه) ، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه ، فقال لهم خالد : “إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا” . ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه ، ولله الحمد . فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الوقعة قال: “يرحم الله أبا بكر كان أعلم بالرجال مني ، والله إني لم أعزله عن ريبة ، ولكن خشيت أن يوكَل الناس إليه” .
ثم حصلت لخالد أمور يطول ذكرها ، وأصبح اسمه كافياً لاستسلام الجيوش والنزول تحت حكم الفاتحين ، وترك خالد ساحة المعركة لإخوانه ، واعتزل القتال بعد هذه الفتوحات ، حتى وافته المنيّة وهو على فراشه رضي الله عنه وأرضاه ، ولما حضرت خالداً الوفاة بكى ، ثم قال : “لقد حضرت كذا وكذا زحفاً ، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء” .. مات خالد بالشام ، وتشرّفت حمص – على الارجح من أقوال العلماء – باحتضان جسد سيف الله تحت ثراها ، فاضت روحه الطاهرة الوقّادة سنة إحدى وعشرين بقرية على ميل من حمص ، حمص التي دنّسها قرد من قرود الرافضة لينتقم من رجل دمّر كرسيّ إلهه كسرى وكسر دين المجوس ..
هذا هو خالد بن الوليد الذي أسلم قبل فتح مكة ليدخلها فاتحاً بعد أشهر ، والذي انكسرت في يده تسعة أسياف يوم مؤتة فلّ بها رؤوس النصارى ، وهدم بيت العُزّى : ذاك المعبد التراثي والصنم الشّركي .. هو الذي شتت شمل طليحة ، وقتل مالك بن نويرة ، وهزم مسيلمة ، وكسر كسرى ، ودّمر جيوش هرقل .. هو خالد الذي علّم الفرسان الفروسية ، وسطّر للأبطال معاني البطولة ، وبيّن للإرهابيين حقيقة الإرهاب ، “فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد ، سيف من سيوف الله، سلّه الله على الكفار والمنافقين” (أحمد) ، “وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا ، وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله” (البخاري) .. لا همّ له غير الجهاد ، ولا يعرف إلا القتال ، ولا برع إلا في ساحات النزال ، فقال : “ما ليلة تُهدى إليّ فيها عروس ، أو أبشَّر فيها بغلام ، بأحب إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبِّح بهم العدو” ..
لم هذا الإرهاب يا خالد !! لم كل هذا القتل يا خالد ؟ لم هذه المجازر يا خالد ؟ إنه الله الذي أمر خالداً وإخوانه بأمر بدأه بنبيّه معلماً طريقة الحق في مقارعة الباطل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال : 67) سنّة الأنبياء في بداية الدعوات لاستئصال شأفة الفساد وتطهير الأرض من الخلايا السرطانية فتحيى الأجيال حياة طيبة نظيفة خالية من الأمراض المستعصية ، هذه الآية وقول الله تعالى {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأنفال : 57) قاعدتان عمل بهما خالد بكل إتقان وإخلاص : فالأولى فيها استئصال شأفة الكفر من الأرض بإحداث مقتلة عظيمة تطهّر الأرض من رجس ومكر أعداء الحق فلا يرتفع للكفر رأس ، فقتل خالد في خمس سنوات قرابة النصف مليون إنسان بالسيوف والرماح والسهام ، والآية الثانية هي آية الإرهاب التي تحض على شدّة النكاية بحيث يخاف البعيد ، كما في قوله تعالى {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال : 60) ، فقطع خالد رؤوس الكفار صبراً واجرى بها نهراً وحزّ رؤوس وحرق أناس وطبخ القدر على رؤوس أناس ، لهذا كان المسلمون في المعارك يقرؤون سورة الأنفال لتقريرها حقيقة الإرهاب وبيانه وكيفية إعمال الخوف والرعب والقتل في أعداء الأمة ..
كانت عبقرية خالد تتجلى إذا عجزت العبقريات واحتار الدهاة : فهذا الداهية عمرو بن العاص يقاتل مسيلمة فيُهزم ليأتيه خالد ويقضي على عدو الله ، ووقف القائد الفذ عياض بن غنم في دومة الجندل محتاراً محاصراً وخالد يفتح البلاد تلو الأخرى حتى وصلته رسالة عياض ففك حصاره ، واحتار القادة في اليرموك أمام جموع الروم الذين تحدروا عليهم كالطوفان فأتاهم المدد العراقي في خمسة أيام ليقود خالد المعركة التأريخية بعد أن جمع القيادة بعبقريته في توافق تام .. أراد الروم الالتفاف على المسلمين وانتزاع دمشق وعليها الأمير “يزيد بن أبي سفيان” فأتاهم خالد من وراء ظهورهم وأذاقهم وبال أمرهم .. أيسمع المسلمون ؟ كان أمير دمشق في الفتح “يزيد بن أبي سفيان” ، واليوم “بشار حافظ” النصيري الكافر عدو الله ورسوله ومن أشد من مبغضي آل أبي سفيان ، فأين أبناء خالد وبني أمية ..
انتصر خالد بالرعب والإرهاب والإثخان في أعداء الله امتثالاً لأمر الله .. انتصر لأنه تواضع لله في كل موطن جهادي فرفعه الله .. انتصر لأنه يقظ القلب حاضر الحس لا ينام ولا يدع عدوّه ينام .. انتصر لأنه في كل موطن يتقدّم صفوف جيشه ويكون أوّل مبارز وأوّل قاتل .. انتصر لأنه ابن الحرب وأخو الحرب وابن عم الحرب وعاشق الحرب لا يعرف غير الحرب ولا تستكين نفسه في غير ميدانه .. انتصر لأنه كفر بالسّلمية وذبح حمامة السلام فشواها على لهيب المعركة ونهشها بأسنانه والقعقاعُ والمثنّى .. عزله عمر كي لا يُفتن الناس به فأبى الله إلا أن يُمضي سيفه .. فتح جزير العرب وكسر أعتى أمبراطويات الأرض في أربع سنين وأبو عبيدة جندي عنده ، ثم صار جندياً وأبو عبيدة قائده فلم تحدثه نفسه غير السمع والطاعة والمضي في الجهاد ، هذه هي نفسيته ، وهنا تتجلى عبقريتة ، فالمصلحة العليا فوق المصالح الشخصية ، والشرف في نيل الشهادة لا في القيادة ..
إنها حرب العقيدة .. إنه الإسلام .. إنه الإيمان .. إنه التوحيد .. لا نزعات شيطانية .. لا مآرب دنيوية .. لا وطنية .. لا قومية .. لا دولة مدنية .. لا سلمية .. لا ديمقراطية .. لا أنصاف حلول .. لا مداهنة .. لا تردد .. لا رغبة في قيادة .. لا زهوّ .. لا غرور .. لا خلافات .. لا منازعات .. لا تشاحن .. لا تباغض .. لا تحاسد .. إنها الأخلاق الإسلامية السامية .. إنها الأخوّة الإسلامية .. إنه الزهد في الدنيا .. الرغبة في ما عند الله .. البعد عن مواطن الريبة .. الجسارة .. القوة .. الشجاعة .. الحنكة .. اليقضة .. طلب الموت في سبيل الحياة الأبدية .. السموّ الفكريّ .. الإبداع العسكري .. الإنغماس الفدائي .. الإخلاص .. الإخلاص .. الإخلاص ..
لولا قصر همم القراء ، وكوننا في عصر المختصرات ، لكتبت مجلدات عن خالد وعبقريته وفتوحاته ، وما ها هنا غيض من فيض ، واختصار شديد جداً لا يليق بالإنجازات الخالدية ، ولعل الله ييسر بجمع كتاب يفي بعض حق هذا العبقري على الأمة ، فلم أجد في الكتب – رغم كثرتها – ما يشفي الغليل في سيرة هذا الرجل الفذّ ، رضي الله عنه وأرضاه ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
5 رمضان 1436هـ
________________
To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]