الحمد لله رب العالمين رب المستضعفين وناصرهم وقاصم الجبارين وقاهرهم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد
فالحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، والكثير منها مِنَحٌ في صور مِحَن والقليل من عباده من يدركها ويتقرب إلى الله بشكرها بمزيد من الصبر والثبات والاستقامة.
هكذا هي أمة القرآن أكثر أيامها محن سرعان ما تنجلي لتصبح منحاً ربانية تكون عوناً لها على مزيد تقرب وطاعة لربها، بإتيان أوامره سبحانه واجتناب نواهيه.
وهذه هي طبيعة هذا الدين { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [ البقرة].
فما نحن فيه من ابتلاء وتدافع مع أهل الباطل ومطادرة لأهل الحق في الشعاب وأسر للكثير من دعاتهم ومجاهديهم وحتى نسائهم وحصار لشيوخهم وذراريهم وتحريف أو تشويه لعقيدتهم ، كل هذا يُعتبر ظاهرة حسنة ودليل على صحة الطريق الذي نحن فيه، طريق الأنبياء والمرسلين ومن سار على هديهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ويؤدون ثمناً باهظاً في دنيا الناس من عرقهم وأمنهم وذويهم ودمائهم، ولكنه بخس في أعينهم بسبب ما سينالونه عند ربهم جزاء هذه التضحيات.
نقف اليوم وفي كل عام مع عيد الأضحى المبارك وهو منسك عظيم يوافق يوم النحر ويوم الوقوف بعرفات بالنسبة للحجيج، وفي غير هذا المكان المقدس يقف المسلمون في ديارهم ليحتفلوا بهذا الحدث العظيم عن طريق التضحية في سبيل الله بالأنعام كرمز للتقرب إلى الله عز وجل بإسالة دماء هذه الأنعام بدلاً من إسالة دماء أبنائهم كما كان مقرراً مع أبينا إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
{فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات].
إن ديننا اليوم أحوج ما يكون إلى دماء طاهرة تسيل في سبيل الله لتعلي كلمة الحق عالية فوق كل الأديان الباطلة، وهو أحوج ما يكون إلى أبناء وهبوا أموالهم وأبناءهم قرباناً لله عز وجل لدفع الظلم الواقع على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من هذه الأمة.
لا ينبغي أن نقف عند إسالة دماء هذه الأنعام والتمتع بلحومها والفرح والسرور وسط أهلينا وذوينا ناسين مآسي المسلمين من حولنا، لأنه {فلن ينال اللهَ لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج].
إن أمة التضحية والفداء مطالبة بالسير على خطى خليل الله إبراهيم ومن جاء من بعده من الأنبياء والمرسلين، فلا ينبغي أن تنسلخ من أخص خصائصها وهي النفقة في العسر واليسر { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، وليس هناك أعظم ولا أزكى ولا أطهر من دماء زكية تهرق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، لذلك نال الشهيد تلك الدرجة العالية عند الله، وكما قلت من قبل فإن الاستشهاد هو قمة وذروة الشهادة كما أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام.
ما أود التذكير به هو أن مناسبة عيد الأضحى المبارك محطة لنا جميعاً لمراجعة أنفسنا وانتمائنا لهذا الدين، وهو بمثابة امتحان لكل واحد منا : هل هو قادر على التضحية بولده ثم بنفسه التي بين جنبيه لنصرة دين الله تعالى ؟
فالتضحية بالأنعام شيء يسير، وما هو إلا رمز لإعدادنا للتضحية بما هو أعظم وأغلى وأكبر، نفسك وولدك لتنال الدرجات العلا عند الله، ولينصر الله بنا دينه ويعلي رايته.
الحمد لله الذي ابتعث في هذه الأمة من يحيي هذه الذكرى ويجسد هذا العيد كل يوم في ساحات الوغى والتدافع مع أهل الباطل، فنرى فتية قد قاموا لربهم ووهبوا أنفسهم قرباناً لربهم لينالوا رضوانه وجنة عرضها السماوات والأرض، وينصروا الحق الذي آمنوا به بدمائهم وأرواحهم وليس فقط عبر القعود في بيوتهم وانتظار التمتع بلحوم وشحوم هذه الأنعام كما يفعل الكثيرون من أبناء هذه الأمة.
إن الله تعالى لابد ناصر دينه بأمثال هؤلاء، فالقلة المؤمنة الصابرة المضحية هي التي تصنع النصر وتقود الأمة من فتح إلى فتح ومن تمكين إلى تمكين، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وأود في ختام هذه الكلمة أن أوجه دعائي وسلامي لقادتنا العظام، هناك في ساحات الوغى حيث يصنعون النصر يوماً بعد يوم، وحيث يعطوننا دروساً في التضحية والفداء في كل لحظة وليس فقط في أيام عيد الأضحى المبارك.
أوجه سلامي ودعائي لهؤلاء العظماء، الأخفياء منهم والظاهرون، لأنهم هم الذين يستحقون الدعاء والعون والمدد والنصرة، لأنهم على ثغرعظيم، ولأنهم فقهوا معنى التضحية والفداء ، رمز هذا الدين وسره العظيم.
أقول لهم ولكل الشعوب المسلمة المرابطة ، تنتظر فرج الله ومدده ونصره، في بلاد الشام وفي بلاد خراسان، وفي بلاد القوقاز، وفي أرض الصومال ومنطقة القرن الإفريقي، وفي بلاد المغرب الإسلامي والساحل الإسلامي، وفي بلاد الرافدين، وفي جزيرة العرب، وفي أرض فلسطين الحبيبة عامة وقطاع غزة خاصة، ولأسرانا في سجون الظالمين من كفار ومرتدين، رجالاً ونساءاً، علماء وطلبة علم ومجاهدين، وفي بلاد تركستان المسلوبة، وفي بلدان جنوب شرقي آسيا، وللموحدين المطاردين والمحاصرين في بلاد الغرب الصليبي، وفي كل مكان من أرض الله الواسعة :
أثبتوا على ما أنتم عليه فإنكم والله على الحق، ونحن من ورائكم ننصركم ونذب عنكم ما استطعنا ونرد عادية المعتدين والمخذلين والمثبطين، ونقاتل إلى جانبكم بكل ما نملك لعل الله يرحمنا ويكتب لنا بعضاً من أجركم وإن أجركم عند الله عظيم.
تقبل الله قربانكم وتضحياتكم ودماءكم يا من رفع الله بكم دينه ونصره وأرهب بكم عدوه وقهره وحمى بكم أولياءه، وكل عام وأنتم مجاهدون صابرون محتسبون، مضحون بما تملكون ونحن بحول الله معكم ومنكم ووراءكم، نسالم من سالمتم ونعادي من عاديتم ونحارب من حاربتم.
ونتضرع إلى الله العلي القدير، الغفور الرحيم، الجواد الكريم، أن يتقبل شهداءنا جميعاً ويجعل دماءهم عربون صدق ووفاء لهم على إخلاصهم لربهم، وسقياً طيباً مباركاً لينتشر به هذا الدين ويتجذر في قلوب العباد قبل البلاد، ويعجل بالفرج والنصر والفتح المبين لمن حمل الراية من بعدهم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
أعاد كتابته الفقير إلى عفو ربه: أبو سعد العاملي
08 ذو الحجة الحرام – 1433 هـ
____________
To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]