الحمد لله القائل ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ (فصلت: 30)، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد :
فإن مفهوم الإيمان في ديننا أشمل وأوسع مما هو شائع لدى عامة المسلمين بل حتى لدى بعض خاصتهم، حيث أنه يشتمل على جانب نظري اعتقادي وجانب عملي تطبيقي، فهو مفهوم السلف الصالح: قول وعمل واعتقاد، يزيد وينقص، فزيادته ونقصانه مرتبطان بالعمل مباشرة (يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي)، فلا معنى لإيمان بلا عمل كما أنه لا معنى ولا قيمة لعمل بلا إخلاص ومتابعة.
ولقد جاء في القرآن الكريم ذم للفئة التي تحصر الإيمان في مجرد القول دون العمل، وذلك في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ﴾(الصف: 3)، ولا شك أن الله تعالى يطلب من المؤمن أن يبرهن على صحة إيمانه في هذه الدنيا التي تعتبر مرحلة امتحان واختبار لهذا الانتماء، وتصديق لهذا الادعاء أو تكذيبه:﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾(الملك: 2)، ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾(الكهف: 7)، فلا يكفي أن يدَّعي المرء الإيمان بمجرد القول أو الاعتقاد، لأن هذه عقيدة فاسدة جرَّت على الأمة الكثير من المصائب، وتسببت في تمكن الأعداء من رقاب العباد وخيراتهم، وذلك حينما اكتفوا بإيمان أعزل تواكلي لا يعطي للجانب العملي أي قيمة تذكر.
إنها عقيدة الإرجاء في مسمى الإيمان، وتلك هي بعض نتائجها الوخيمة على الأمة، حتى صار الناس لا يستطيعون التمييز بين الكافر الأصلي وبين المرتد، بل لقد حكموا بإسلام هذا الأخير لمجرد أنه ادعى أنه مسلم بلسانه حتى وإن ناقض هذا الإسلام بعمله، بل لقد بايعوا هؤلاء الحكام المرتدين ومكنوهم من الحكم وتحولوا إلى أنصار لهم يدافعون عنهم ويصبغون عليهم الشرعية، فهدموا بذلك عقيدة السلف في مسمى الحكم، وذهبوا إلى أبعد من هذا، حينما نادوا إلى ما أسموه “حوار الأديان”، واعتبار الكفار الأصليين مؤمنين، كونهم أهل كتاب، فأسقطوا بهذا عقيدة الولاء والبراء، وشوهوا مفهوم الجهاد حينما حصروه في مجرد جهاد الدفع، وسموا جهاد الطلب بالإرهاب وتبرءوا منه ومن كل المجاهدين.
أما الإيمان المقبول عندهم فهو الانصياع لأولي الأمر، والسعي إلى المشاركة في العمل السياسي لإصلاح النفوس ودعوتها إلى مكارم الأخلاق والكف عن التدخل في شؤون الناس – كل الناس – سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، عصاة أو طائعين، مصلحين أو مفسدين، فشعارهم هو الحديث الشريف – الذي فهموه بالمقلوب-: “من حسن إسلام المرء (وفي رواية: من حسن إيمان المرء) تركه ما لا يعنيه”.
إن الإيمان الذي ندعو الناس إليه هو الانصياع لله عز وجل وللحق الذي أنزله، دون محاباة أو خشية أحد، وهو الإيمان الذي يدعو صاحبه إلى ترك ما يتناقض مع مبادئه وهجر كل المعوقات التي تقف في طريق انتمائه للدين الجديد، والزهد في كل شيء مهما ثقل وزنه وعلا شأنه في دنيا الناس.
إيمان يدعو صاحبه إلى التضحية والصبر والمصابرة، وإلى مواجهة المخالفين ومجابهتهم والانتصار عليهم وعلى إغراءاتهم وإرهابهم.
إيمان يدفع صاحبه ويجعله قادراً على الجهر بالحق الذي يؤمن به، حتى وإن كان أكثر الناس لا يقبلون ما يدعوهم إليه، ويجعله معتزاً وفخوراً بما يحمله من مبادئ وقيم تخالف ما يعتقده القوم من حوله.
إن الإيمان في زمن غربة الإسلام الثانية عملية معقدة وصعبة للغاية، فهي تشبه عملية القبض على الجمر، لابد من الصبر على أذى حرارتها لتبقى مشتعلة أو على الأقل متوقدة وإلا انطفأت.
نحن نريد إيماناً أشبه بإيمان العجائز في ظاهره، بحيث لا يتزعزع المرء عن ثباته، ويزداد مع الابتلاء والمحن تجذراً وترسيخاً في القلب، ولكنه يتميز عن إيمان العجائز في جوهره، بحيث يكون سليماً وموافقاً لإيمان السلف الصالح، بعيداً عن البدع والانحرافات التي نجدها لدى عجائزنا بسبب الجهل الموروث.
ولقد نجح الأعداء لفترات طويلة وفي مناطق شاسعة ومتعددة من بلداننا أن ينشروا بدعاً كثيرة ومغريات متعددة لصرف المسلمين عن الممارسة الحقيقية لدينهم، في شتى مجالات الحياة اليومية للمسلم، وأصبح الالتزام عندنا صورياً وإسمياً لا غير، وحاولوا إغراقنا في الشهوات لكي لا نضحي في سبيل ديننا، فيصير لدينا أرخص من جناح بعوضة، نضحي به في سبيل تحصيل فتات الدنيا الزائل.
هذا في الوقت الذي يضحي فيه المسلمون بأغلى ما يملكون وعلى رأسها حياتهم، من أجل التكالب على هذه الدنيا والحرص عليها.
.. ثم استقم
ليس المهم أن تؤمن، بالرغم من أهمية هذه النقلة وصعوبتها في آن واحد، ولكن الأهم هو الاستمرار والثبات على هذا الإيمان، وهو ما يسمى بالاستقامة.
فالاستقامة شرط أساسي على صحة الإيمان، فعن أبي عمرة سفيان بن عبد الله t قال، قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: ” قل آمنت بالله ثم استقم” [رواه مسلم].
هكذا الإسلام ، يجعل الاستقامة بعد الإيمان مباشرة ، بل لا معنى لهذا الإيمان بدون استقامة.
وفي الحديث المشهور حيث قال رسول الله r: ” شيبتني هود وأخواتها، وشيبني في هود قوله تعالى ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾(هود:121)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
انظروا إلى ثقل مسؤولية اتباع أمر الله، ﴿ كَمَا أُمِرْتَ ﴾، أي كما أمر الله تعالى، وليس اتباع الهوى أو النفس أو الابتداع في الدين ما لم ينزل به الله .
ولاشك أن للعبادات اليومية والموسمية دورا كبيرا في تربية المسلم على الاستقامة، كالصلاة مثلاً، حيث يضطر المؤمن إلى تكرار هذه العبادة عدة مرات في اليوم والليلة لكي يبقى على اتصال مستمر مع ربه من أجل الدعاء وطلب المغفرة والمدد، فهي أشبه بمحطات استراحة وتزود، لمواصلة المسير.
وعملية الصوم هي الأخرى تربي المسلم على الصبر وامتلاك زمام نفسه وكبح جماحها عن الشهوات والإسراف في الحلال، وهاهو رمضان على الأبواب، وهو فرصة جديدة لكل مؤمن بأن يجعل هذا الشهر مدرسة لتحصيل الصبر وتعويد النفس على الاستقامة على طاعة الله عز وجل، في السر والعلن، في السراء والضراء وفي المنشط والمكره.
فالاستقامة درجة أعلى من درجة الإيمان، لأنها تطالب صاحبها أن يكون دائم الطاعة والاتباع، لما في ذلك من مخالفة للهوى والأعراف والقوانين، وما يتبع ذلك من حرمان وأذى وفوات لمصالح مادية عديدة، وهو أمر قاس على النفس، يحتاج صاحبها إلى امتلاك إرادة قوية، وتوفيق من الله وتسديد.
فالمؤمن بحاجة إلى استقامة في تعامله مع الحلال والحرام، حيث أن الشيطان يزين الحرام ويسهله على النفس، ويجد على ذلك أعواناً، في الوقت الذي يُظهر فيه الحلال صعباً وشاقاً على صاحبه، ولا يجد المؤمن على ذلك أعواناً، بل يجد نفسه وحيداً وسط حقول من الشهوات، والعديد من جند إبليس التي تؤزه إلى المعصية أزاً.
كما أنها شرط لنزول رحمة الله ورزقه على عباده ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ﴾(الجن: 16). والرزق هو المتاع الدنيوي الذي يبحث عنه الإنسان ويكدح من أجله ، وهاهو يأتيه صاغراً مضموناً من عند الله عز وجل ﴿ لأسقيناهم ﴾، تأكيد وضمان لا شك فيه ، بشرط تحقيق الاستقامة على طريقة الرسل والأنبياء.
كما أن المؤمن بحاجة إلى استقامة في السر والعلن، فيكون مظهره وباطنه سيان في كلتا الحالتين، فيستحضر أمر الله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾(آل عمران: 102) حيث أن المراد هو الحرص على استقبال الموت في حالة إيمانية، بعيداً عن المعاصي التي تودي بصاحبها إلى الكفر.
وهو بحاجة إلى الاستقامة في اليسر والعسر، حيث أن كثيراً من الناس يستطيعون تحقيق الاستقامة على أمر الله في حالات الرخاء والسعة، بينما تراهم يتزعزعون ويرتبكون ويضعفون في حالات الشدة والضيق، وهي الأكثر حضوراً في هذا الزمان، حيث أن الإسلام وأهله يعيشون تحت حصار شامل ومتواصل من قبل أعداء الله، بغية ردهم عن دينهم وفتنتهم عن عقيدتهم، وهذا يحتاج منا معشر المسلمين والمؤمنين أن نتسلح بسلاح الاستقامة والثبات على ديننا مهما اشتد هذا الضيق واتسع هذا الحصار.
والمؤمن بحاجة إلى الاستقامة في دعوته، سواء في مرحلة تتبع المدعو من أجل الاستئناس ثم بناء جسر الثقة بينه وبين المدعو، أو في مرحلة التربية والتكوين، أو في مرحلة التوظيف، وهي مراحل قد يصاب فيها الداعية بنوع من الملل واليأس قد يدفعانه إلى إيقاف عملية الدعوة قبل أن تكتمل، وهو أشبه بعملية إجهاض، لا سبيل إلى تفاديها إلا بالاستقامة.
أو ربما يضطر الداعية – حرصاً على كسب الناس – إلى الانحراف عن دينه والتنازل عن بعض مبادئه، لإرضاء هؤلاء المدعوين. وكثيراً ما يحصل هذا لدى بعض الجماعات التي تكون مسيرتها الدعوية – في بادئ الأمر– سليمة وواضحة، ولكن سرعان ما تبدأ في الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم ابتغاء مرضاة البشر من حولها بدلاً من مرضاة الله، وابتغاء تحقيق بعض المكاسب السياسية الموهومة مقابل هدم الكثير من معالم الشريعة. وها نحن نرى هذه الجماعات – أو ما يسمى بحركات الإسلام السياسي– تسقط في أحضان الطغاة والظالمين، أو نراها تشكل أحلافاً سياسية مع بعض الأحزاب العلمانية لكسب بعض المقاعد في برلمانات كفرية أو بعض الحقائب الوزارية في حكومات مرتدة. [1]
كما أن المؤمن بحاجة إلى استقامة في عملية الإعداد، لما يتطلب ذلك من صبر وأناة ، ولما في ذلك تعدد الجبهات والثغور, لا يمكن الاستمرار والثبات على الطريق إلا بتحقيق الاستقامة، وهي بدورها لا يمكنتحقيقها إلا حينما يستحضر المؤمن ما ينتظره من جزاء أخروي وربما نصر دنيوي﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَاالأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُالْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌوَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾(الصف: 13)، والمؤمن – كما الجماعات الجهادية – بحاجة إلىالاستقامة في جهادها لأعداء الله، سواء الجهاد باللسان أو بالسنان، وهو أعلى مراتبالجهاد، ولا شك أن الشيطان يرصد للمجاهدين أكثر مما يرصد لغيرهم، حيث يحاول أن يذكرهم ويزين لهم ما تركوه وراءهم من الدنيا والأهل والولد، ويحاول أن يقنعهمبتأجيل الجهاد ﴿ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيب ﴾، أو يخوفهم من مصير أهلهوولده ومتاعه من بعده، وهذا بحاجة إلى استقامة لتجاوزه والانتصار على هذا الوساوس الشيطانية.
كما أن الأعداء – حينما يرون ثبات المجاهدين وإصرارهم على مواصلة القتال، وتحقيقهم للانتصارات المتتالية عليهم – يحاولون إقناعهم بوضع السلاح، و الجلوس إلى طاولة المفاوضات والمساومات السلمية لتقاسم السلطة أو مجرد الحصول على بعض الوعود الكاذبة في ذلك.
فالمجاهد لا ينبغي أن ينكسر بسبب بعض الانتكاساتوالجروح التي تمسه في مسيرة جهاده، وعليه أن يعلم أن هذا جزء من الثمن الواجب أداؤهللحصول على وعد الله في الدنيا والآخرة، ولن يتمكن من مواصلة جهاده بغير الاستقامة،كما لا يمكن الحصول على النصر والتأييد الرباني بغيرها كذلك.
فالاستقامة شرط لنزول نصر الله ومدده لعباده ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونْ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فيِهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيم ﴾[فصلت 30].
ولاشك أن الاستقامة تحتاج إلى عزيمة كبرى وصبر واسع وتضحية كبيرة، لأنها ستسبب لصاحبها اضطهاداً ومخاسر ومصاعب، والنفس البشرية متعودة – بطبعها – على اليسير من الأمور، كما أنها تتضايق من طول الأمد، وتودُّ لو تبلغ المراد في لحظات، فنجدها تلجأ إلى سلك الطرق الملتوية، والابتعاد عن الصراط المستقيم شيئاً فشيئاً حتى تسقط في المحظور.
فالمطلوب منا معشر المسلمين، مجاهدين ومهاجرين وأنصارا، أن نتعظ بأعدائنا في تمسكهم الشديد بمبادئهم الباطلة والاستقامة على طريقتهم الخاطئة، ولنكن أفضل منهم في انتمائنا وإيماننا، وأفضل منهم في صبرنا واستقامتنا على ديننا وطريقتنا، وحينئذ يحق لنا أن ننتظر نصر الله ومدده ، وتحقيق وعده لنا في الدنيا والآخرة.
__________
To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]