New article from Shaykh Ḥussayn bin Maḥmūd: "The Fitnah Episode"

بسم الله الرحمن الرحيم
فتنة الحلَقة

لعل رؤوس كثيرين من أنصار الجهاد دارت مع تلك الحلقة التي انتهت من حيث بدأت : تزكية الأمير الظواهري للأمير البغدادي ، ثم إعلان البغدادي ضم جبهتي الشام والعراق في “دولة العراق والشام” ، ثم إعلان الأمير الجولاني الإعتذار عن هذا الضم ، ثم مبايعة جبهة النصرة للأمير الظواهري !!
هذه الحلقة رُسمت في أيام معدودات ، وفي كلمات خاطفة ، لكنها أظهرت خللاً كبيراً في الفكر الذي يتبناه بعض أنصار المجاهدين هنا وهناك ، ثم أظهرت خللاً لا يقل عنه عند بعض العلماء والدعاة وطلبة العلم وخواص المناصرين لأهل الجهاد !!

لا بد من إعادة النظر في تأثير هذه الحلقة على كثير من الشباب الذين لم يعهدوا مثل هذه الإشكالات في العمل الإسلامي : فصُدم البعض ، وأخذ البعض موقفاً ، وتعصّب البعض ، وحصل تنافر وتشاحن وتشويش ، فتغيّرت الألفاظ ، وتباعدت القلوب ، ووقف البعض بعيداً يراقب الحال دون تدخّل في أمل أن تنجلي الغمة ، وهي كذلك ..

قد يكون الأمر كبيراً عند البعض ، وقد يكون عند البعض أصغر مما نتصوّر ، فهو عند المتفائلين : سوء تنسيق بين بعض القيادات ، وعند المتشائمين : أموراً ذكروها في كتاباتهم ومقالاتهم وتصريحاتهم .. سنحاول مناقشة بعض المفاهيم التي نعتقد أن بها غبش عند البعض ، وهي المشار إليها في العنوان بالفتنة ، لأنها كذلك ، فمنها :

أولاً : معنى قول الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا …} (العنكبوت : 69) ، هذه الآية يظلمها البعض ، فالهداية هنا لا تعني العصمة بأي حال من الأحوال ، فالمجاهدون بشر ، وقادتهم بشر ، وهم يُخطؤون وليسوا بمعصومين ، وإنما معنى الآية أنهم أقرب إلى الهداية العامة من كثير من المسلمين لأنهم في موطن إخلاص وعمل جليل وفي عبادة مستمرة ، وقد فسّر بعض العلماء هذه الآية بأنها في أهل القتال ، وقال البعض بأنها في من يجاهد بأي نوع من أنواع الجهاد . فمن جاهد نفسه أو الشيطان أو العدو الداخلي أو الخارجي ولم يكن خاملاً متكاسلاً متقاعساً يدخل في هذه الآية عند بعض علماء التفسير ، وظاهر الآية أنها في أهل القتال لأن العلماء قالوا بأن كلمة الجهاد إذا أطلقت فإنها تعني القتال في سبيل الله ما لم يصرفها صارف عن ذلك ..

الشاهد أن الهداية هنا لا تعني العصمة ، فلا ينبغي أن نلطم بهذه الآية وجه كل من يناقش قراراً أو عملاً للمجاهدين بزعم أنهم هم المهتدون ، ومخالفوهم ضالون ، فخالد بن الوليد – رضي الله عنه – قتل بني جذيمة وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من صنيعه ، ونزل الرماة من جبل أحدٍ وكانوا من الصحابة المجاهدين وتسببوا في هزيمة المسلمين ، والأمثلة كثيرة .. قد يكون رأي بعض المجاهدين أهدى من بعض ، وقد يكون رأي بعض القاعدين أصوب من رأي بعض المجاهدين ، فالأمر نسبي وليس على إطلاقه ..

ثانياً : سوء الظن بالمسلمين .. وهذا أمر عظيم أنزل الله فيه قرآناً يُتلى ، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ …} (الحجرات : 12) ، وقال تعالى {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ..} (النجم : 28) ولعلنا لا نجد كلمة الظن معرّفة في القرآن إلا في موضع ذم !! نحن نسأل هؤلاء : ما هو الأصل في المسلمين ؟ ولماذا سوء الظن ؟ وأين حمل كلام المسلم على أحسن محمل ؟ وماذا يفيد سوء الظن غير الخصومة والضغينة !!

ثالثاً : بالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد أن الله تعالى ذكر نهياً عظيماً قبل آية الظن في سورة الحجرات فقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات : 11) ، وقد رأينا كيف أن سوء الظن أدى إلى اللمز والتنابز والسخرية بين الإخوة !! ورأينا الطعن واللعن والبذاءة والفحش في القول !! فأين آداب الإسلام ؟ وهل نحن أنصار قضية إسلامية أم قضية سوقيّة !! وأين نحن من قول نبينا صلى الله عليه وسلم “ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء” (الترمذي ، وصححه الألباني) ، وهل يعتقد أحد بأن سبيل النصر هو انتفاء صفة الإيمان !!

رابعاً : عمِل البعض على تفريق المجاهدين وتمزيقهم من حيث لا يشعر ، فقد تعصّب البعض لرأي فلان ، وتعصّب آخرون لرأي فلان ، وأصبحت عندنا فرقتان ورأيان بعد أن كنا جبهة واحدة على قلب رجل واحد ، والله تعالى قد بيّن بياناً واضحاً جليّاً ليس فيه أي مجال لتأويل فقال سبحانه {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال : 46) ، هذه حقيقة لا تقبل الجدال ، فالتنازع مآله الفشل وذهاب الريح ، وهو مناقض لطاعة الله ورسوله المذكورة في أوّل الآية ، فالواجب الصبر وتحمّل بعض الأمور في سبيل اجتماع الكلمة حتى تتحقق معيّة الله ويحصل النصر بفضله ، فمن تدبّر الآية جيداً علم هذا يقيناً .. كلنا يحفظ هذه الآية : {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصفّ : 4) ، والسؤال هنا : إذا كان الله تعالى يحب هذا ، فهل يحب نقيضه !! وهل ننتصر بما لا يحبه الله تعالى !!

خامساً : هل يسعنا مخالفة رأي قادتنا !! هذه معضلة عند البعض ، ويتحرّج منها البعض ، فلا بد من بيان الأمر ووضوحه .. هناك فرق بين مخالفة رأي القادة ومخالفة أمرهم في غير معصية .. لا ينبغي للإنسان أن يلغي عقله أو يرهنه لغيره ، فالصحابة كانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في بعض قراراته ويناقشونه ، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم بل كان يطلب مشورتهم وهو أغنى الناس عن ذلك ، فغيره من باب أولى .. قادة الجهاد ليسوا طغاة ، الطاغية هو من يرفض أن يخالف الناسُ رأيَه ، ولذلك تجد سجناء الرأي بالآلاف في البلاد الدكتاتورية ..

إذا أمر قادة الجهاد أمراً فعلى الجنود السمع والطاعة في غير معصية ، قد يكون الجندي غير محب للرأي أو غير مقتنع به ، ولكن عليه أن يسمع ويطيع ، ولا إثم عليه إن لم يعجبه الرأي ، ولكن قد يأثم إذا شغب على القادة وأبدى إعتراضه على الرأي في بعض المواقف التي لا تحتمل ذلك : كأن يعلن ذلك في معركة أو في موقف يحصل فيه انشقاق في صفوف المسلمين أو وهن ، عندها يكون السكوت هو الواجب ..
قد لا يعجبني أن يعلن البغدادي “دولة العراق والشام” ، أو لا يعجبني اعتذار الجولاني عن الإنضمام إلى هذه الدولة ، وأرى أن رأيي هو الصواب ، وهذا حقي الطبيعي والشرعي أحتفظ به كرأي لي ، ولكن هل من المصلحة الجهر بهذا الرأي الآن وعلى الملأ !! وهل من العقل التعصب لرأيي والبراءة ممن يخالفه ورميه بشتى التهم في مثل هذا الوقت وهذه الظروف !!

سادساً : هناك فرق كبير بين النصيحة والتشفي .. فالنصيحة لها آدابها وأحكامها وهي مطلوبة مرغوبة لدى العقلاء ، وتكون بين الأحبة .. أما التشفّي فهو مكنون الصدر يخرج وقت محنة المُتشَفّى به ، وهو دليل عدم الرضى المسبق والبغض والكراهية الداخلية ، وهو مذموم بين الإخوة ..

سابعاً : ينبغي الحذر من الوزغات ، وهي شياطين الإنس الذين ينفخون على كل شرارة وفي كل رماد إستجلاباً للنار وإضراماً لها لتحرق المسلمين .. لقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغات لأنها كانت تنفخ على النار التي ألقي فيها إبراهيم عليه السلام ، فينبغي أن ندوس هذا الكائن القذر حتى يعلم أن مكانه تحت الأقدام .. فكل من يريد شق صفوفنا وزرع العداوة والبغضاء بيننا وينتهز كل فرصة للتحريش بيننا فهو وزغة ..

ثامناً : غاب عن ذهن البعض قول الله تعالى {فتبيّنوا أن تُصيبوا قوماً بجهالة} (الحجرات : 6) ، والأمر هنا ليس اختياري ، بل واجب ، فلا يمكن لعاقل أن يسلّم بكل ما يسمع أو يقرأ ، لا بد من التثبّت في الأقوال ، ونحن أمة التثبّت ، فلا نأخذ الحديث من أي إنسان حتى نعرف حال الراوي وسنده ونوقن بموافقة الكلام للأصول العامة ، وهذه خاصية لا توجد في غير هذه الأمة ..

تاسعاً : هناك قاعدة – يحق لها أن نسميها “ذهبية” – تصلح في مثل هذه الأحوال ، وقد وردت عن بعض السلف ، حيث قال : “ليس كلّ ما يُعقل يُقال ، ولا كل ما يُقال حضر أوانه ، ولا كل ما حضر أوانه حضر رجاله” ، هذه القاعدة لا يعرف فائدتها إلا أصحاب الحكمة والتجربة الطويلة والدراية ، ولا يستطيعها إلا أهل الحلم الأناة والصبر والعقل ، فلننزلها على هذه الواقعة لنتعلّم عملياً درساً عظيماً في التعامل مع الأقوال ..

ليس كل ما يُعقل يُقال : قد أعرف أخباراً أو أسراراً أو أطلع على أمور لم يطّلع عليها إلا قلّة قليلة ، فهل من العقل أن أبوح بكل ما أعلم !! عندي أخبار وأسرار عن المجاهدين فهل أُطلع عليها الناس أم أقول ما أعلم أنه ينفع المسلمين ولا يضرهم وأُبقي الباقي لنفسي خاصة إن كان إعلانه يضر الإسلام وأهله !!
ولا كل ما يُقال حضر أوانه : قد أستطيع البوح ببعض الأمور التي فيها مصلحة للمسلمين ، ولكن لا بد لي من اختيار الوقت المناسب ، فلا يصلح القول في وقت انشحنت فيه النفوس وتنافرت القلوب ، أو في وقت احتدمت فيه المعارك وحمي فيها الوطيس فتصبح بلبلة وينشق الصف لضيق الوقت وعدم تهيء النفوس لاستقبال مثل هذه الكلمات ..

ولا كلّ ما حضر أوانه حضر رجاله : هذه قاعدة مهمة جداً في زماننا هذا بسبب انتشار البرامج الإجتماعية ووجود الشبكة العالمية والوسائل الإعلامية ، فالبعض يذكر أموراً لا يصلح ذكرها على الملاً فيتلقفها الناس وتحصل بلبلة وهرج وفتنة عظيمة بسبب حمل العوام الكلام على غير محمله ، أو عدم إدراك الناس لحقيقة بعض الأمور على الوجه الصحيح ، أو غيرها من النتائج التي تحدث بسبب إظهار بعض الأمور الخاصة للعامة ، فهذا أمر غاية في الخطورة .. الأصل أن يُستشار أهل العلم والعقل ، وأن لا نُعلن للعامة ما هو من شأن الخاصة ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستشير جميع الصحابة في جميع الأمور ، وإنما كان له مجلس شورى مصغّر على رأسه أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب ، وكان لعمر مجلس شورى من كبار الصحابة وبعض صغارهم ، فالقول إذا لم تبلغه العقول كان فتنة للبعض ، وقد يُكذّب اللهَ ورسولَه بسبب كلام لم يدركه العقل ..

لا ينبغي لعاقل أن يقول كل ما يعلم في كل وقت ولكل أحد ، بل ينبغي أن ينتقي ما يقول في الوقت المناسب فيقوله لأهل الشأن والرأي والعقل والأمانة ، فهذا مقتضى الحكمة ..

عاشراً : الأصل في العلاقة بين المسلمين : المودّة والرحمة واللين وخفض الجناح ، قال تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح : 29) ، وقال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران : 159) ، وقال تعالى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (الشعراء : 215) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم “مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مَثلُ الجسدِ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى” (مسلم) ، فبعض المسلمين يقلب الأمر ويكون فظاً غليظاً شديداً على المسلمين فاجراً في المخاصمة والعياذ بالله ، فهذا خلاف الأصل ، وهو معصية لله تعالى ..

لعل البعض ينتظر الرأي التفصيلي في الأحداث الجارية ، وكان المقصود ذكر بعض القواعد ومناقشة بعض المفاهيم لتكون أصلاً ينطلق منها الأحبة في الحاضر والمستقبل ، وكما قال الغربي : لا تُعطني سمكة ، بل علّمني كيف أصيد .. والحكمة ضالة المؤمن .. لكن بعد كتابة هذه القواعد ، أصر بعض الإخوة على إسداء بعض النصح لإخواننا ، ولا بأس من إسداء نصيحة واجبة علينا تجاه قادتنا وإخواننا المجاهدين والمناصرين ..

فأقول للمجاهدين : اعلموا – رحمكم الله – أنكم خرجتم في سبيل الله ، ابتغاء مرضاة الله ، ولم تخرجوا لرفع راية حزب أو فرقة ، ومن كان هذا شأنه فإنه أكبر من أن يتعصّب لرأي قائد أو جماعة .. الله غايتكم ، وما عنده مبتغاكم ، وقد تحدث بعض الإشكالات ويكون بعض غبش ولكن لا ينبغي أن يعكّر هذا صفو الإخلاص والنية “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” وليس كلمة شخص أو جماعة ، فقد يكون في الجيش الواحد : شهداء وقتلى حروب ، والله ينظر إلى ما في القلوب ، وهو علّام الغيوب .. لا يعني هذا مفارقة الجماعة ، بل من لوازم الإخلاص : التزام الطاعة ولزوم الجماعة لأنه أمر الله تعالى .. أخلصوا النية لله ، والتزموا الطاعة ، والزموا الجماعة ، واصبروا وصابروا وأبشروا بنصرٍ من الله وفتح قريب ..

ما بلغنا من البعض يحتّم علينا توجيه كلمة خاصة للأفراد في “جبهة النصرة” بالشام ، فأقول : البغدادي رأى أن تكون القيادة مركزية ليتقوى المجاهدون ببعضهم البعض ، وليسنّ سنة إلغاء الحدود بين بلاد الإسلام وغيرها من المصالح ، والجولاني رأي أن تكون القيادة لا مركزية في هذا الوقت لخصوصية الجبهة الشامية وما فيها من تعقيدات .. رجلان اختلفا الرأي واتفقا في الهدف ، وهو : نصرة الدين .. لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يعكّر مثل هذا الإختلاف المرحلي صفو القلوب ، ولا أن يفارق بين الأجساد ، فلا زال الرجال يختلفون .. لا يجوز ، وأقول : لا يجوز شرعاً شق الصف لمثل هذا ، وينبغي بقاء الأمر على ما كان ، والتزام طاعة الأمير الجولاني ، ومن خالف أمره في مثل هذا فقد عصى الله ورسوله وأضعف شوكة المسلمين ، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكم ، فالمعركة لازالت محتدمة ، وعدوكم خبيث متربّص بكم ، ومن سن سنّة الشقاق فعليه وزره ووزر من تبعه ويتحمّل إثم دماء المسلمين وأعراضهم المنتهكة ، ومن أعمل عقله والتزم الجماعة فله أجره وأجر من تبعه وأجر رفعة الإسلام في الشام إلى يوم الدين ..

وأقول للقادة : اتقوا الله في المسلمين ، واعلموا أن الإمارة أمانة ، وأن غايتكم نصرة هذا الدين ، وعليكم بالشورى ، واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ، واعلموا ان الحرب لا زالت في بدايتها ، وأن الحاجة ماسّة لجميع الجهود في جميع الجبهات ، ولعل القيادة اللامركزية الآن أفضل بسبب بُعد الجبهات عن بعضها ، وبسبب عدم الصفاء في بعضها ، فقادة الجبهة أعلم بما فيها وما يصلح لها ، وفي كل جبهة شغل عن غيرها ، ومن انتهى من تحرير جبهته ينتقل إلى غيرها وليس قبل ذلك ، وعليكم بالصبر والمصابرة فإن الله مع الصابرين ، ولا تستعجلوا قطف ثمار شجرة لم يشتد عودها ، ولا تنزلوا من جبل الرماة قبل انتهاء المعركة فيأتيكم العدو من خلفكم ، ولا تعصوا الله بالإختلاف والتنازع فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وكونوا عباد الله إخوانا ، وتواضعوا لله ، واخفضوا جناحكم لإخوانكم يرفع الله قدركم ، واطلبوا ما عند الله وحده ، واعلموا أنكم إن أخلصتم النيّة هززتم الجبال بكلماتكم قبل قنابلكم ، فالله ينصر من ينصره ، وهو القوي العزيز ..

أما الأنصار فأقول لهم : اتقوا الله في دماء المسلمين عامة والمجاهدين خاصة ، وأعملوا قواعد الإسلام ومنهجه في كل نازلة ، واعلموا أنكم مسؤولون أمام الله عن أقوالكم وأعمالكم ، ومثل هذه الحوادث لا ينبغي أن تأخذ أكبر من حجمها أو أن تخالف بينكم فيتسبب هذا في اختلاف المجاهدين في الجبهات .. ولا بأس من اختصار بعض هذه القواعد للتذكرة ، فأقول :

1- ليس معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
2- يجب التبيّن من كل قول .
3- الأصل حسن الظن بالمسلمين .
4- يجب الإلتزام بأصول الحوار الشرعي .
5- لا ينبغي إلغاء العقل أو رهنه عند الغير .
6- ينبغي معرفة الفرق بين اختلاف الرأي ومخالفة الأمر .
7- اختلاف الرأي أمر طبيعي ويلزم معرفة كيفية التعامل معه .
8- لا ينبغي التعصّب والتحزّب لشخص أو لجماعة مسلمة دون غيرها .
9- من أعظم أصول الدين : الإعتصام والوحدة ورص الصفوف .
10- من أعظم أسباب الفشل : التنازع .
11- لا ينبغي قول كل شيء في كل وقت ولكل أحد .
12- الأصل في أهل الإيمان أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم .
13- لا بد من الحذر من المندسين .
14- نصر الله للمسلمين مرهون بنصرة المسلمين لدينهم وليس بمعصية الله .

إن ما كتبه بعض “الأنصار” لا يعدو أن يكون عصبية لقائد أو جماعة ، ودخل في بعض الكلام حظ النفس والإنتصار لها ، والبعض كبُر عليه أن يقر بخطئه فصار ينافح عنه ، وهذا كله خارج عن الإخلاص للقضية الأساسية ، ألا وهي : نُصرة هذا الدين ، فاللازم الآن الرجوع إلى الله والإخلاص وتصحيح النية والتوبة والإنابة ، فلا يكون البعض ممن قال الله فيهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} (البقرة : 206) .. الجاهل من ظن أنه لا يُخطئ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” (ابن ماجه وصححه الألباني) .. ليس العاقل من لا يُخطئ ، بل العاقل من عرف خطئه فلم يصر عليه ..

أمر عجيب !!

يعجب المرء حين يرى البعض يعتقد بأن الإنتقاص من “قاعدة الجهاد” أمر لا بد منه لنصرة قضايا المسلمين !! وقد قرأت الكثير من المقالات والتحليلات التي انتقدت مبايعة الجولاني للظواهري وكأنه أتى كبيرة من الكبائر !! الكل أظهر الإشفاق على الجهاد ، وسمى هذه البيعة “تدخلات خارجية” وبنى عليها مبانٍ وهمية صبها في صالح الكفار ، فالله المستعان !!

لنا أن نتسائل : ما الذي تغيّر بعد هذه المبايعة التي أشفقتم منها !! هل توقفت المساعدات الغربية الصليبية النوعية الوهمية للمسلمين في سوريا !! هل تراجع الغرب الصليبي عن فرض الحضر الجوي الوهمي !! هل توقف الغرب الصليبي عن الكيد والمكر بالمسلمين بسبب هذه البيعة !! هل استأنفت آلة القتل النصيرية الرافضية عملها بسبب هذه البيعة بعد أن توقّفت !! ما الذي تغيّر !!

البعض يقول بأن المجاهدين أعطوا الغرب الصليبي ذريعة للتدخل ، وبعضهم قال بأنهم أعطوا الغرب الصليبي ذريعة لعدم التدخّل ، والبعض قال بأن المجاهدين أعطوا النصيرية الكفار ذريعة للقتل !! أمر عجيب أن يصل حال بعض المسلمين إلى هذا المستوى المتدني من التفكير والسطحية !!

لا زال النصارى واليهود يكيدون بالمسلمين ويعادونهم قبل البيعة وبعدها ، ولا زال الغرب الصليبي يمنع عن المجاهدين السلاح قبل البيعة وبعدها ، ولا زال الغرب الصليبي يتدخل في سوريا بالكيد والمكر قبل البيعة وبعدها ، ولا زال الرافضة والنصيرية الكفرة يقتلون المسلمين قبل البيعة وبعدها ، فما الذي تغير يا قوم !!

مللنا هذه العقول المهزومة ، وهذه النفوس المستسلمة ، الكل يصيح : الغرب سيفعل والغرب لن يفعل ، والحقيقة الغائبة المُهملة المُستبعدة هي : ما هو دورنا نحن !! أين سلاحنا !! لماذا لم ندعم نحن المجاهدين بالسلاح !! لماذا لم ننهض نحن لقتال النصيرية بعد !! لماذا لم نمكر نحن بالغرب كما يمكرون بنا !! هل نحن في هذه المعادلة !! هل نعتقد بأن الغرب الصليبي سيدعم المسلمين وقضاياهم !! هل نعتقد لحظة بأن الغرب الصليبي سيتوقف عن الكيد بنا !! هل نعتقد لحظة بأن الرافضة والنصيرية سيتوقفون عن معاداتنا لحظة واحدة ، وأنهم إن تمكنوا منا سيوفرون قطرة من دمنا !!

أقولها للعلماء والدعاة والمثقفين بكل صراحة ووضوح : إن هذه البيعة لم تكن طوق نجاة للغرب وللنصيرية ، بل كانت طوق نجاة لنا نحن .. تخاذلنا عن نصرة المسلمين والمستضعفين في الشام بالنفس وجبُنا عن مواجهة حكامنا الذين ألجمونا ومنعونا فعجزنا حتى جاء ما ظننا أنه الفرج ، فألقينا – لغفلتنا – باللوم على أناس نفروا للجهاد في سبيل الله وأجابوا داعي الله ، فأي ماء وجه بقي في وجوهنا ، وأي حياء بقي عندنا !! نظرة واحدة في كتاب الله تُعلمنا أننا نحن المتخاذلون المتخلّفون المتقاعسون الراضون بالدون المتوَعّدون بالعذاب الأليم ، ونظرة أخرى تُخبرنا بأن أهل الجهاد هم العاملون المنصورون المُهتدون الموعودون بالنعيم المقيم ..

لا سددنا مكانهم ، ولا استحيينا من لومهم ، ولا سكتنا إذ رضينا أن نكون مع الخوالف ونحن المكلّفون المأمورون بنصرة من استنصرنا .. فأي الفريقين أحق باللوم إن كنتم تعقلون !!

“قاعدة الجهاد” موجودة في الشام قبل الثورة السورية ، وشاركت فيها منذ البداية ، وهي ليست من خارج الإطار الإسلامي ، وإنما من خارج حدود سايكس-بيكو ، فمن قال أنه “تدخّل خارجي” فقد خرج عن المفهوم الشرعي للأمة الإسلامية . التدخّل الخارجي هو تدخّل غير المسلمين – من الغرب الصليبي والعرب المرتدين وغير المسلمين – أما المسلمون فهذا شأنهم وهذه قضيتهم وهم معنيّون بها بنص كتاب الله .. الذي يستجدي الغرب الصليبي ليتدخّل في شؤون المسلمين أولى أن يقال له هذا الكلام ، أما أهل الإسلام – وخاصة أهل الجهاد – فهذا شأنهم الداخلي الخاص وهم مأمورون بأمر الله عز وجل بالتدخل ونصرة المسلمين ، ومن لم يفهم هذا الأمر فعليه أن يراجع عقيدته وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ..
إن هذا الأمر من أعجب العجب : كيف تقول لقاعدة الجهاد لا تتدخّلوا !! وما شأنك أنت !! ولماذا تتدخّل أنت فيما لا يعنيك !! إن كان الأمر يعنيك فهو يعنيهم من باب أولى لأنه أمر جهاد وأنت لست من المجاهدين ، وإن كان لا يعنيك فصهْ !! تطلب من الكفار أن يتدخلوا في شؤون المسلمين وتقول للمجاهدين لا تتدخلوا !! ليست هذه المشكلة ، المشكلة أن بعض الناس يمر عليه هذا الكلام مر الكرام !! والمصيبة أن البعض مقتنع به !! حقاً : الحماقة أعيت من يداويها ..

عزائنا أن المسلمين في سوريا لم تنطل عليهم هذه المكائد وهذا المكر ، فقد انجلى غبار القهر ليكشف عن حنكة خليفتهم معاوية بن أبي سفيان ، ويَظهر بين الركام دهاء وزيرهم عمرو بن العاص ، وفي دويّ المدافع بسالة جدّهم الفاتح سيف الله خالد بن الوليد (رضي الله عن الجميع) فالحمد لله الذي كسر كيد الشيطان على صخرة الشام فخنس فيها بعد أن رأى الملائكة تحف أكناف هذه البلاد بأجنحتها ، فالله – جلّ وعلا – تكفّل بها وبأهلها ..

وقفة ..

يقول الإعلامي عبد الباري عطوان في مقالة له بعنوان “قنبلة النصرة تُربك المعارضة” : “اننا أمام مشروعين متصادمين لأطراف المعارضة المسلّحة للنظام السوري :
الاول: مشروع ديمقراطي يريد قيام دولة مدنية تحتكم الى دستور وحكم صناديق الاقتراع ، وقانون وضعي على غرار القوانين المطبقة في دول مدنية اخرى ، مثل تركيا بل وحتى سورية الحالية مع بعض التعديلات الاسلامية الشكلية على غرار ما حدث في مصر .
الثاني: مشروع اسلامي يعتبر القرآن الكريم هو دستور الدولة ، والشريعة الاسلامية واحكامها هي قانونها ومرجعية حكومتها . على ان تكون هذه الدولة الاسلامية السورية هي جزء من منظومة دولة الخلافة الاسلامية.” (انتهى كلامه) ..

هذا الرجل ليس من “قاعدة الجهاد” ولا عضو في “جبهة النصرة” ، ولا يُعدّ في عرف الناس اليوم من المتشددين ، بل هو صحفي فلسطيني يعيش في بريطانيا ، قال هذا الكلام بعد تتبع واستقراء الوضع السوري .. إن لكلامه هذا فائدة عظيمة للمسلمين عامة ، وللمقاتلين في سوريا خاصة ، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ …} (النساء : 76) ، وقال تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة : 193) والفتنة هنا هي الكفر .. وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو : “إن قاتلتَ صابراً محتسباً بعثكَ الله صابراً محتسباً ، وإن قاتلتَ مرائياً مُكاثراً بعثك الله مرائياً مكاثراً ، يا عبد الله بن عمرو : على أي وجه قاتلتَ أو قُتلتَ بعثك الله على تلك الحال” (أبو داود) ، وعليه نقول :

أيها المقاتل في سوريا : إن قاتلتَ من أجل الديمقراطية والدولة المدنية والأحكام الوضعية العلمانية ، بعثك الله على ما قاتلتَ عليه . وإن قاتلتَ من أجل القرآن والأحكام الشرعية والدولة الإسلامية وإحياء الخلافة ، بعثك الله على ما قاتلتَ عليه ، فالقتال الثاني في سبيل الله ، والقتال الأوّل في سبيل الطاغوت ، وإنما هي حياة واحدة في الدنيا ، ثم حياة أبدية في الآخرة ، فاختر لنفسك ، لا تكلَّف إلا نفسك : إما القتل وإما الشهادة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال “من قـتل تحت راية عميّة ، يدعو عصبـيّة أو ينصر عصبـيّة ، فقتلته جاهليـة ” (مسلم والنسائي) ، فالديمقراطية والدولة المدنية والأحكام الوضعية رايات عميّة لا تهتدي ببصيرة الإسلام ، والقومية والقطرية والقبلية والوطنية عصبيات جاهلية ، فإن قاتلتَ ومتَّ لنصرة هذه العصبيات فقِتلتُك جاهلية ، وإن قاتلتَ لتكون كلمة الله هي العليا فتدحر النصيرية وتحكّم البلاد بالشريعة الإسلامية فذلك في سبيل الله ..

أقول ناصحاً مشفقاً لإخواني المقاتلين في بلاد الشام : جبهة النصرة وأخواتها يقاتلون من أجل الدين ، والبعض يقاتل من أجل وطن وحكومة ودولة مدنية طاغوتية لا تحكّم شرع الله ، والله تعالى يقول {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ …} (النساء : 76) ، فمن شاء أن يكون من {الَّذِينَ آمَنُوا} فليكن معهم ، ومن شاء أن يكون من {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} فليكن مع الآخرين ، وما يختار الإنسان لنفسه في الدنيا سيلقاه في الآخرة ، و{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدّثّر : 38) ..

والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

كتبه
حسين بن محمود
17 جمادى الآخرة 1434هـ

________

To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]